اليوم هو أول أيام شهر رمضان الفضيل أعاده الله على المسلمين جميعًا بالخير والسلام، وأعاده الله على بلدي مصر بالخير والسلام والمحبة والاستقرار. اليوم هو التاسع والعشرون من شهر يونيو، أي مرّ عام على 30 يونيو 2013 ذلك التاريخ الذي لن يُنسى في سجل مصر بعد ثورة 25 يناير، فقد خرجت فيه جماهير تطالب بانتخابات رئاسيّة مبكرة، وهناك جدل حول أعدادها، وترتب على ذلك أنه بعد ثلاثة أيام تمّ عزل أوّل رئيس مدني منتخب بقوة المؤسسة العسكريّة وبتغطية سياسية ودينية وشعبية وبدأت مرحلة انتقاليّة جديدة بسياسات مختلفة عما جرى بعد الثورة وقد تعمدت تلك الفترة بدماء كثيفة سالت ولا تزال تسيل من المواطنين وبشكل لم يحدث في تاريخ مصر الحديث ولا في تاريخ الصراعات والأزمات بين الفرقاء السياسيين، ولا بين أي قوة سياسية، وبين الدولة، والدماء لا تعني فريقًا بعينه، بل هي دماء المصريين جميعًا محتجين ومعتصمين ومتظاهرين مسالمين وقوات شرطة وجيش ومواطنين عاديين شاءت الأقدار أن تجعلهم يتواجدون بمناطق الأحداث الساخنة الدموية. لا نتحدّث هنا عمن يُمارسون العنف والإرهاب ويعتقدون أنه الطريق الوحيد لتحقيق أهدافهم، فالعنف مرفوض ومدان من أي جهة سواء كانوا جماعات أو أفرادًا، بغض النظر عن معتقدها السياسي أو توجهها الديني، كما هو مرفوض أيضًا من السلطات إذا تجاوزت في ممارسة العنف المنظم، وإذا انتهكت حقوق وكرامة وآدمية الإنسان. رفض العنف ونزع شرعية استخدامه عن الأفراد والجماعات لا يعني تسويغه للأجهزة التي يُفترض أن تكون هي الأمينة على سلامة رعاياها ومواطنيها وعدم امتداد الأذى إليهم بأي صورة من الصور، وإذا جاز أن يتورط الفرد في العنف فلا يعني ذلك أن يكون الردّ بسلوك مماثل من الأجهزة طالما بمقدورها ضبطه ومحاسبته، فممارسة العنف خارج القانون هو الطامّة الكبرى حيث يجعل من يتورط فيه ويمارسه يبيع نفسه ويذهب بقدميه إلى هلاكها ثأرًا وانتقامًا ويأخذ معه في طريقه آخرين أبرياء، كما يجعل المظلوم الذي يرى الأجهزة المنوط بها أن تنصفه هي من تظلمه يسير في طريق اللاعودة أيضًا. أخطر ما يُزعجني في الحالة المصريّة طوال هذا العام الدامي المتأزم بشكل لا مثيل له هو قضية الدم، فالسلطة لا تعنيني بكثير، هي بيد من، أو من يسيطر عليها، ويحكم بها، ويتحكم فيها، لأنني أتصوّر أن الإيمان بالديمقراطية الليبرالية الحقيقية في مصر لم يترسخ بعد، وأن القوى السياسية المتصارعة منذ ثورة يناير على السلطة لا تريدها كممارسة ديمقراطية، إنما فقط تريد الوصول إليها لتسكن وتستقرّ فيها، ثم الله أعلم بما يحدث بعد ذلك، المجلس العسكري أراد البقاء في السلطة، والإخوان قاموا بممارسات أضرّتهم ووصمتهم بأنهم ينوون الاستبداد، والسلطة التي أزالتهم وجاءت بعدهم رتبت الأوضاع بحيث تبقى فيها، ولا أمل حقيقيًا في ديمقراطية على النمط الغربي خلال الفترة الحاليّة، بل إن الإقصاء هو سيّد الموقف في مصر منذ تأسيس الجمهورية، وحتى أيام الملكية حيث كان يتم إقصاء حزب الأغلبية، وهو الوفد، بتزوير الانتخابات، وبتشكيل حكومات أقليّة لا تعبّر عن إرادة المصريين. قضية الدم هي التي تجعل اليوم زوجات ينتحبن على فراق أزواجهن، وتجعل أطفالاً تيتمن يبكين اشتياقًا لأحضان آبائهن، وأباء وأمهات يقتلهن رحيل فلذات أكبادهم، وشقيقات وأشقاء لا تجفّ عيونهم على غياب الشقيق تحت التراب، وتجعل أصدقاء وزملاء وأحبة لا يجدن بعد الإفطار من كانوا يصلون معهم التراويح، أو يتسامرون سويًا حتى السحور. كم بيت في مصر يتشح بالحزن والأسى ولوعة الفراق اليوم قبل وبعد الإفطار؟. كم مائدة يغيب عنها الأحبة والأعزاء رجالاً ونساءً، شبانًا وفتيات؟. كم مسجد وشارع ومقهى وصحبة لن يكون حبيب وعزيز غالٍ غير موجود فيها أول يوم صيام وبعد الأذان؟. كم من المصائب والنوازل والأحزان والسواد والظلام يسيطر على مصريين، وكم هي الدموع التي تنهمر في مصر اليوم، وكل يوم. من يُعالج هذه القضية الأخطر في مصر؟. ليست السلطة هي الأخطر، لأن الأيام دول، ومبارك تصوّر أنه خالد فسقط من حيث لم يكن يتوقع، وهكذا قبله السادات، وعبدالناصر، والملك فاروق، وغيرهم مع اختلاف الأسباب التي جعلتهم يرحلون عن السلطة. الدم هو أزمة مصر، وعلاج الدم هو علاج مصر وشفاؤها من جزء كبير من صدمتها وكارثتها. لا حل إلا بتحقيق شامل وجامع ونزيه وشفاف في قضية الدم ليأخذ كل ذي حق حقه أولاً، وعندما تعلم الأسر والأهل والأقارب والأصدقاء والأحبة أنه تمّ إنصاف الدماء ستكون الترضية سهلة ويسيرة، ولا يضيع دم مواطن واحد هباءً منثورًا. هذا الدم وإنصافه للمصريين جميعًا، مواطنين وشرطة وجيش، صار في عنق السيسي باعتباره بات رئيسًا ووليًا للأمر ومسؤولاً عن هذا الوطن وعما جرى وسيجري فيه طوال وجوده بالسلطة.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.