كان الطرح في المقال السابق حول أثر الاستبداد في المجتمعات, وكيف يتأثر به مكونات المجتمع بمن فيه من الصالحين, ورأينا كيف كتب الله على بني اسرائيل التيه لمدة أربعين سنة, وغاب عن المشهد جيل الشيوخ الذي عاش في الذل والاستبداد طويلا, حيث لم تتحقق به الأمال, كما رأينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يحمي أصحابه من آثار القهر والاستبداد فأوصاهم بالذهاب الى الحبشة, وظل يحاول تغيير المجتمع المكي هو ومن معه, ثم تقررت إرادة الله ومشيئته أن يخرج المسلمون جميعهم من مكة الى المدينة, الى مجتمع جديد لا يتصف بالاستبداد الذي كان في مكة, ومن هذا المجتمع الجديد نجحت وانطلقت الدعوة الإسلامية الى العالم بأسره نشرا لدين الله تعالى, وظهر دور الشباب جليا في دعوة الإسلام ,كما ظهر في ثورة مصر المباركة. لماذا الشباب؟ لا يمكن لمجتمع أن يستغنى عن خبرات وعلم وفضل وحكمة شيوخه,لكن القيادة الحركية والتنفيذية "أحسبها" تكون للشباب الواعي والكفؤ, إذ يملكون الحلم والجسارة والإقدام, ولديهم الأمل والتطلع للمستقبل, وبعلمهم واخلاقهم وحماستهم تتحقق الأمال, بهذه الخلطة الإنسانية يتقدم المجتمع وينهض وتتحقق الأمال.. أولا : اشارات هامة في القرآن تشير الى أهمية دور الشباب 1/ اسماعيل يساند ابيه عليهما السلام : في قصة ابراهيم عليه السلام نجد أن قومه كانوا في حالة استسلام لعبادة الأصنام, لكنه لم يستسلم لذلك , فقام وانكرالمنكر, وقرر تحطيم تلك الأصنام المعبودة من دون الله, وحين يتسائل القوم عن الفاعل تأتي الإجابة كما قال الله تعالى :﴿قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ﴾ الأنبياء: 60, فندرك أن ابراهيم عليه السلام كان فتىً, وندرك أنه غار على دينه ولم يستسلم لحالة الخنوع التي كان عليها مجتمعه.. وتمضي مسيرة ابراهيم عليه السلام, ويكبر في السن, فيبشره ربه بغلام هو اسماعيل, يعاضده ويسانده, حتى إذا أراد الله سبحانه أن يقيم للناس بيتا لعبادته, فيصف لنا ذلك المشهد بقوله سبحانه: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)- البقرة]..فندرك قيمةهذه الإضافة (وإسماعيل) ذلك الشاب الذي يرفع القواعد ويشِّيد البناء . 2/ وأتيناه الحكم صبيا: يصف نبي الله زكريا حاله لربه كما جاء في سورة مريم: [قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)].وفي نفس السورة في موضع تال قال :[ وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)] وكأن السؤال بفرض نفسه: من يكمل المسيرة ؟ فتأتي البشارة من الله له بغلام أسمه يحيى, وحين يبلغ الغلام مرحلة الصبا يأتي التكليف له من الله مباشرة: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) ولعلنا نتوقف طويلا مع أمر الله: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ, حيث تتوفر القوة للشباب, ثم كان التعقيب الرباني العجيب: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.. بهذا الوضوح, وفي إشارة عظيمة لتلك القيادة الشابة,ثم تتوالى الآيات لنرى كيف يحل الشابان " أبنا الخالة" يحيى وعيسى عليهما السلام محل زكريا عليه السلام ليعملان معا في إبلاغ دعوة الله سبحانه.. 3/ يوسف يكمل مسيرة يعقوب عليهما السلام: إذ يصف لنا الله سبحانه تمكين يوسف في الأرض وهو لا يزال غلاما, فقد قال الله تعالى في سورة يوسف : [وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21)] 4/ فتية الكهف : ينبهنا القرآن الكريم أيضا أن من قام وغار على دين الله في زمن غابر هم فتية كما وصفهم ربهم:: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ الكهف: 13 5/ الغلام في سروة البروج: وذاك غلام أخر يتعلم على يد شيخه, لكن الشيخ ينبهه أنه هو الذي سيتصدى للمواجهة ومن خلاله تتحقق النتائج, فيواجه الغلام الملك الظالم وزبانيته ويجود بروحه الطاهرة انتصارا للحق الذي يؤمن به ويعتقده.. 6/ يوشع بن نون يعاضد مسيرة موسى عليهما السلام: وقد تمت الإشارة اليه في سورة الكهف : [وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60)], لندرك أنه فتى أيضا, ثم ندرك أن الله قد حقق النصر على يديه بعد وفاة موسى عليه السلام.. ثانيا : أحاديث من رسول الله للشباب. 1/ [يا غلام إني معلمك كلمات].. في مسند الإمام احمد وغيره من حديث ابن عباس قال : كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ [يَا غُلَامُ أَوْ يَا غُلَيِّمُ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ فَقُلْتُ بَلَى فَقَالَ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ فَلَوْ أَنَّ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا] رسّخ النبي صلى الله عليه وسلم لغلمان الأمة قيمة كبرى, أنه لا يجب أن نخشى أحدا إلا الله, وألا نتوكل إلا عليه, وهو يمثل نموذجا فريدا لرفع همة الشباب نحو الإقدام والاقتحام.. 2/ [يا معشر الشباب] : في الصحيح من حديث عبد الله بن مسعود قال: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:[يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ]. وهو دعوة الى تحصين الشباب مما يمكن أن يلفتهم عن جادة الطريق, وعظيم المهمات. 3/ يوم بدر: يخبرنا ابْنُ عَبَّاسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يَوْمَ بَدْرٍ: "مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا وَأَتَى مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَلَهُ كَذَا وَكَذَا"، فَتَسَارَعَ إِلَيْهِ الشُّبَّانُ، وَثَبَتَ الشُّيُوخُ عِنْدَ الرَّايَاتِ..(النسائي والبيهقي) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "ما آتى الله عز وجل عبدًا علمًا إلا شابًّا، والخيرُ كلُّه في الشباب". ثالثا : مواقف من السيرة العطرة كان معيار تولي الأعمال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الكفاءة, فنجده يولي عمرو بن العاص سرية ذات السلاسل وهو لا يزال حديث عهد بالإسلام ويجعله قائدا على الشيوخ السابقين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة, وهذا لا يعني فضل عمرو عليهم, بل إن فضل أبي بكر وعمر وأبي عبيدة هو على الأمة كلها بما فيهم عمرو بن العاص, وكذلك ولى رسول الله خالدا القيادة وهو أيضا حديث عهد بالإسلام, وقد رأينا كيف كان صلى الله عليه وسلم يوزع المهام , وكان للشباب النصيب الأكبر في المهمات الكبيرة, دون أي تجاهل أو انتقاص للشيوخ, فكان على بن أبي طالب في فراش النبي يوم الهجرة, وكانت مواجهة جعفر لملك الحبشة, وسفارة مصعب للمدينة, ومعاذ الى اليمن, وعندما فتح المسلمون مكة كان أميرها الأول عتاب بن أسيد "ابن العشرين عاما", وكان بعث أسامه وقيادته لجيش المسلمين من أواخر ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحط من كبرياء دولة الروم على يدي شاب لا يتجاوز الثامنة عشر من العمر، وقد أكثر المنافقون القول في تأميره وتوليته أمر قيادة الجيش الإسلام، واعترضوا على أن يقود الكبار شاب في مثل سن أسامة رضي الله عنه. وقد بلغه صلى الله عليه وسلم ذلك، فخرج على الناس وقال :( إن تطعنوا في إمارته، فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل، وأيم الله، إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده) رواه البخاري .. وقد قضى الله سبحانه أن يكون هذا البعث آخر بعث في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول بعث ينفذ في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه,فلما اشتد الخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم، أقام الجيش في مكانه ينتظر الخبر,ثم أتاهم نبأ وفاته عليه الصلاة والسلام . وبعد أن انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، واستقر الأمر لأبي بكر رضي الله عنه, أشار كثير من الناس على الصديق أن لا يبعث جيش أسامة,لكنه أصر على انفاذه, وخرج الصِّديق ماشياً يودع الجيش, ولما أراد أسامة أن ينزل ليركب أبو بكر رضي الله عنه، اعترضه أبو بكر قائلاً: والله لا نزلتَ، ولا ركبتُ. وما عليَّ أن أغبَّر قدمي في سبيل الله ساعة, ليحقق له احترامه وتقديره أمام جنده, فيسلس له قيادتهم.. وفي أوائل القرن العشرين جدد الله للأمة دينها على يد شاب أسمه حسن البنا, كان ميلاده 1906,فأسس وقاد جماعة الإخوان وهولم يتجاوز 22 سنة,وملأت الجماعة أسماع الدنيا وهو في الثلاثينات من عمره..هكذا كان دور الشباب,وهكذا نريده لهم, دورا ثريا فعالا كبير مؤثرا,يقودون المسيرة, يستلهمون حكمة الشيوخ وتجربتهم, لكنهم يعيشون أيامهم بمعطياتها وواقعها,ويجدون حلولا لها من علمهم وشبابهم وحماستهم واقدامهم. , وللحديث بقية حول جوانب الموضوع الأخرى,نستكمله إن شاء الله.. مصطفى كمشيش [email protected]