كأنهم يقرأون على شيخٍ واحد، ومن كتابٍ واحد، هؤلاء الحكّام العرب، كيف يفكرون؟ وكيف ينظرون إلى شعوبهم؟ تغيرت الدنيا من حولهم ولم تتغير طرائق تفكيرهم ولا أساليب عملهم، ومن لا يتغير يتغير. كيف يفكر هؤلاء الحكّام؟ لا مراجعة ولا إعمال عقل ولا استشارة خبير أمين، ولا حتى مسايرة لأحوال العصر، يسلكون نفس الدرب ذي الاتجاه الواحد، ولا يفكرون في الوقوف - ليس دقيقة حدادا على من قتلوا من شعوبهم ولا احتراما لأرواح الضحايا خاصة هؤلاء الشباب الخضر الذي أخرجته أشواق الحرية وطموحاته في نظام أكثر عدالة- ليتدبروا أين المسير والمصير، وكل التجارب قبلهم في تونس ومصر وليبيا واليمن أثبتت فشل الحل الأمنيّ، إلا أننا نجد إصرارًا غريبا عليه في سوريا. لم أؤمن يوما أن النظام السوري (سواء في عهد الأسد الكبير أو الصغير) نظام ممانعة كما يروج زبانيته، ولم أومن أصلا بتلك التقسيمات الوهمية، فأي نظام ممانعة هذا الذي تضرب قوات العدو الإسرائيلي أرضه ثم لا يحرك ساكنا اللهم إلا تصريحا يتيما لحفظ ماء الوجه أنه: يحتفظ بحقه في الرد، وتم الحفظ طبعا وليس الرد. إنما مع أهل سوريا في حماة الباسلة فالرد جاهز وبقتل عشرات الآلاف من الشعب الأعزل ودك المدينة على رؤوس أهلها. ما أشبه الليلة بالبارحة، والولد سرُّ أبيه، غير أن الزمان قد دارت دورته، ولم يعد ممكنا ما كان ممكنا في السابق، لقد كسرت الشعوب حاجز الخوف، وعلمتها تجارب انتصار الثورات في مصر وتونس أن التجربة قابلة للتكرار، وخرج الشباب بصدورهم العارية يتلقون رصاصات الغدر من نظام فقد كل أثر للشرعية (إن كان ثمة مكانا لمفاهيم الشرعية: تأسيسا وممارسة في نظام قام على الانقلاب واغتصاب السلطة ابتداءً وانتهى بتوريثها على رؤوس الأشهاد). لقد أكدت دراسة أودنيل وشميتر المعنونة: Transition From Authorities Rule أنه لا يمكن أن يكون هناك تحول إلى الديمقراطية الحقيقية – بمعنى تداول سلمي للسلطة عبر انتخابات حرة نزيهة – لا يكون ناتج بشكل مباشر أو غير مباشر عن انقسامات مهمة داخل النظام التسلطي نفسه وبالتحديد من خلال الانقسام والصراع داخل بنية النظام بين المتشددين والانفتاحيين، بين صقور النظام المحافظة على الأوضاع الحالية كما هي، وحمائمه الداعيين إلى التغيير والمبشرين بمرحلة جديدة، ذلك أنه وكما حدث في أغلب الحالات التي حدث فيها تحول ديمقراطي فإنه جاء نتيجة قرارات وأحكام من قطاعات مؤثرة من النخبة السياسية التي تقود هذا التحول. أما لماذا تحدث هذه الانقسامات داخل النخبة فيمكن إرجاعها إلى عاملين: أولهما: تأكل شرعية النظام: ويحدث ذلك لعدة أسباب أهمها: 1- فشل النظام في التغلب على مشاكل المجتمع فيتحول الفشل المركب إلى أزمات مزمنة تتحات بشرعية النظام وتتآكل معها (ضعف القدرة على الإنجاز). 2- الأزمات الهيكلية التي يعيش بها النظام: مثل طريقة الوصول إلى السلطة (الانقلاب أو التوريث في ظل نظام جمهوري)، طريقة ممارسة السلطة، عدم الأخذ في الاعتبار مصالح مختلف الفرقاء السياسيين، جمود هيكل النخبة وعدم دورانها، تركيز وتركز الثروة بشكل كبير (احتكار السلطة واحتكار الاقتصاد). 3- زيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء (عمليات إفقار ممنهج للشعب). 4- فشل النظام في إدراك مهمته، أو حدوث تغير في القيم الاجتماعية يجعل الشعوب أقل تقبلا للحكم التسلطي (زيادة الوعي والمعرفة وعدم تقبّل الاستبداد). 5- تمحور السلطة حول فرد، وتركيز كل السلطة في يديه وأيدي عائلته وطائفته (جمود بنية السلطة). العامل الثاني من عوامل الانقسامات داخل النخبة هو: تقلص الموارد ويعني تقلص قدرة النظام على الوصول إلى المقوّمات المادية مع ضعف قدراته القمعية، وغالبا ما يكون سبب ذلك التقلّص في الموارد هو تغييرات في البيئة الدولية أو الإقليمية (عودة العاملين في الخارج – ضعف التحويلات من الخارج – طريقة الاستثمار في الداخل – تصور النظام السياسي لدور الدولة). ومن مجموع هذين العاملين يكون سبب انهيار شرعية النظام وانقسام نخبته السياسية. وبالجملة يمكن إيجاز أهم التغيرات التي تحدث داخل بنية المجتمع والتي تدفع به نحو عملية يتم فيها تداول سلمى للسلطة في: 1- تغير مطالب ومصالح المجتمع أو فئات مؤثرة فيه. 2- تغير القيم السائدة مما يؤدي إلى عدم احتمال ممارسات النظام القمعية "التسلطية" أو تركيز السلطة في نخبة حاكمة تضيق قاعدتها لتستأثر بكل أو أغلب موارد الدولة. 3- نمو المنظمات الرسمية وغير الرسمية داخل المجتمع، ويشمل هذا النمو ازدياد مصادر تلك المنظمات مما يتيح لها استقلال أكبر عن الدولة بما يعيد ترتيب توازنات الأوضاع الداخلية. وكما توصل أودنيل وشميتر في دراستهما المشار إليها: أن هناك نقطة تغير مهمة في التحول في هيكل النظام بشكل سلمي وهي: حين تقرر بعض العناصر المتحالفة في النخبة: أن نظام الاستبداد الحالي لم يعد وجوده ضروريا، أو يمكن الاستغناء عنه، أو إذا شكّل وجود النظام عاملا مهددا بالنسبة لمصالحهم. وإذا قمنا بعملية تطبيق منهجية لكل تلك العوامل السابقة على النظام السوري لوجدنا أن هذا النظام كان من المفروض أن يسقط قبل عشر سنوات (على الأقل) وذلك عندما تمت عملية توريث للحكم واضحة المعالم ضمن نظام جمهوري. وعندما تم التلاعب بالدستور وتغييره ليسمح بالتوريث. وكان من المفروض أن يسقط نظام الأسد عندما تم احتكار مصادر الثروة فيه من قبل مجموعة ضيقة من محيط الرئيس العائلي والطائفي على أكثر تقدير. وكان من المفروض أن يسقط النظام عندما سمح لنفسه بأن يكون حصان طروادة الذي دلفت عبره إيران إلى المنطقة تخل بموازينها وتلعب بأقلياتها المذهبية. وكان من المفروض أن يسقط نظام الأسد عندما تغير وعي الشعب السوري وخاصة الشباب وأصبح أقل تقبلا للحكم السلطوي. وكان من المفروض أن يسقط نظام الأسد عندما احتكرت النخبة الضيقة لمحيط الرئيس العائلي كل مقدرات الاقتصاد السوري وأصبح بعضهم يعرف باسم رجل العشرة في المائة. إن نظام الأسد الصغير يراهن على الزمن في زمن فشلت فيه كل الرهانات، إلا الرهان على الشعوب وإرادتها، وقد أراد شعب سوريا الحياة.