فى شتاء عام 1949 زار الكاتب الشاعر المسرحى الفرنسى جان كوكتو مصر, مع فرقة من أعضاء الكوميدى فرانسيز, ولقى تكريما كبيرا من المصريين, وبعد أن انتهت الفرقة من مهمتها, وعادت إلى فرنسا, أصدر جان كوكتو كتابا عن مصر عنوانه معلهش والكتاب يعد حملة شديدة عنيفة على مصر وشعبها. وأسوق فى السطور الآتية بعض العبارات التى تبين عن طبيعة الكتاب ومساره: -وقد أصبح لهذا الشعب الذى يتسكع وينام فى التراب ألوان الرمال والسماء وماء النيل. - وقد خلق هذا الشعب للكسل والموت, وهما أطول وأضمن من الحياة, ولذلك فإنه بعد أن أتلفت أعصابه القهوة والحشيش والشاى الأسود, أخذ يوزع نشاطه بين المدرسة, والموت الصغير الذى يسمونه النوم. - إن الدين هو الأمل الوحيد لشعب مستكين راض بمصيره.. - إن المخدر الوحيد الذى يهدئ أعصاب المصريين هو الدين. وأخذ جان كوكتو يعرض مثالب الشارع المصرى من أصوات الكلاكسات, وحوادث السيارات, والتناقض الصارخ بين الكوخ الطيني, والعمارات الشاهقة. وبين عربة الكارو والسيارات الفارهة. ومنع الكتاب ومنع الكتاب من دخول مصر بقرار حكومي, ولكنه دخل سرا على نطاق واسع, فكل محجوب مرغوب, وكنت أتمنى أن ينظر إلى الكتاب نظرة موضوعية فإن فيه كثيرا من الحقائق المؤسفة عن المجتمع المصري, والشارع المصري, ما زال كثير منها باقيا حتى الآن على الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على صدور الكتاب. ولست فى مقام مناقشة الكتاب, ولكن الذى يشد النظر إليه هو العنوان الغريب للكتاب الذى جعله صاحبه على هيئة يوميات, أو مذكرات, يقول المؤلف فيها (إن كلمة معلهش طرقت أذنيه فى مصر عشرات - بل مئات - المرات. حتى جعل منها عنوانا لكتابه). معلهش .. بنت أصل وهذه الكلمة العجيبة أصلها - ما على شيء - وتسمى هذه العملية فى اللغة العربية نحتا. مثل- إيش - فهى فى الأصل: أى شيء? وبسمل: أصلها قال: بسم الله الرحمن الرحيم. ومعلهش العجيبة تعيش فى حياتنا من قديم. وهى كلمة يسمعها الإنسان فى المصالح الحكومية, والمدارس والشوارع والباصات والمنازل, حتى أصبحت أكثر الكلمات وأوسعها انتشارا. ومعلهش ليست كلمة تقال, بقدر ما هى تكثيف عاطفي لمنطق التفريط فى الواجب, والهروب من مواجهة الخطأ, وعلاج السقوط, فهى فى جوهرها تعنى انعدام الشعور بالمسئولية والتملص منها. ولمعلهش العجيبة سلطان عجيب وباع طويل عريض فى مجال الوقت. وسلوا عنها فى الدواوين والمصالح الحكومية, حيث التأخير والتزويغ, وحيث البطالة المقنعة التى تتمثل فى اكتظاظ المصالح بالموظفين والموظفات, وحيث تقطيف الملوخية وأشغال التريكو, وحل الكلمات المتقاطعة. فإذا ما نهض رئيس عمل ذو ضمير حي, لمحاسبة من يهدرون دم الوقت ودم الإنتاج, بل ودم مصر نفسها.. تطل برأسها صاحبة الجلالة معلهش, وبصحبتها جيش من الحيثيات. معلهش ... وعلشان ويلازم معلهش فى حياتنا كلمة أخرى هى علشان, وهى تسهل أحيانا فتحذف منها اللام, وتصير عشان. وهذه الكلمة نحت أيضا من كلمتين هما على شأن أى من أجل. وهى تمثل المنصة التى تنطلق منها حيثيات صاحبة الجلالة معلهش وهذه الحيثيات نوعان: - نوع خاص: يرتبط ارتباطا مباشرا بنفس الجاني, كقولهم معلهش النوبة دى عشان خاطري, ومنه التبرير بالمرض, أو بعائق المواصلات, أو تأخر الاستيقاظ من النوم, ومنه التبرير الأسري, فيطلب الجاني العفو, أو التنازل عن العقاب عشان الأولاد, أو الانشغال بمرض الزوجة أو واحد من من الأسرة.. إلخ. ونوع عام, وهو الذى يستند إلى بعض الأفكار, والمقولات, والمأثورات الدينية: مثل قولهم :معلهش.. جل من لا يسهو, ملعهش: كل بنى آدم خطاء, معلهش: ربنا حليم ستار, معلهش ربنا غفور رحيم.. إلخ. وهى كلمات طيبة حكيمة فى ذاتها. أما غير الطيب فهو سوء استعمالها فى غير مكانها, وكان على الجانى أن يتذكر كذلك أن الله شديد العقاب, وأنه أمرنا أن نؤدى الأمانة على وجهها الأكمل, وأن نتقن عملنا بقدر ما نستطيع. أقبح الوجوه ... ولصاحبة الجلالة معلهش وجه آخر لا أخلاقى يتمثل فى التنازل عن الكرامة الذاتية والتفريط فيها حيث يصحبها - غالبا عبارات الرجاء والنفاق وطلب العفو والتسامح من القلب الكبير, بدلا من الاعتراف بالخطأ ومواجهته, والعمل على تفاديه مستقبلا. كما أنها تعنى رشوة عاطفية لا موضوعية يقدمها المرءوس لرئيسه, محاولا أن يحصن نفسه بها بدون وجه حق من غضب الرئيس, ومن حساب المحاسب, ومن سطوة القانون. أمل ... متي.. متى تختفى هذه الكلمة وتوابعها من حياتنا, حتى يختفى من حياتنا التفريط والاهمال والتواكل والتسيب.. ليحل مكانها الشعور بالمسئولية, وتقدير الواجب, وتقدير الوقت, واحترام الذات?. وهى مسئولية تضامنية يجب أن ينهض بها الدولة والمجتمع بكل فئاته وطبقاته 0 [email protected]