لأننا مقبلون على أيام "سودا" وثورة مضادة تتمدد تدريجيا في "أضابير" الدولة وأعماق جهازها الإداري بهدوء وصبر وبال طويل ، فلم يكن مفاجئا أن تتحرك الثورة المضادة في التعليم العالي وتتمدد ، وتبحث عن أي منجزات حققها المصريون في ثورتهم في 25 يناير من أجل أن تنقض عليها وتدفنها لكي تعيد الأمور إلى هيئتها كما كانت أيام مبارك وقبل الثورة ، وهذا ما كشف عنه الخطاب السري الذي تم توجيهه إلى رؤساء الجامعات الأسبوع الماضي يخبرهم فيه بالترتيب من أجل صدور قرار بإلغاء نظام اختيار القيادات الجامعية وفق الآلية الديمقراطية ، بالانتخاب ، والعودة إلى نظام التعيين والاختيار الذي كان سائدا قبل الثورة والذي أفسد الحياة الجامعية ووضع سمعتها في الوحل وجعلها مجرد إدارة ملحقة بوزارة الداخلية ، مشروع القرار الجديد الذي لا نعرف إلى أين وصل حتى الآن ، هل وصل فقط إلى إبراهيم محلب أم أنه وصل إلى "مفرخة القوانين والتشريعات المضادة للثورة" في رئاسة الجمهورية الحالية ، المستشار عدلي منصور ، تمهيدا لإصداره وقمع عشرات آلاف الأكاديميين المصريين به ، مشروع القانون زعم أنه صدر بناءا على "رغبة المجتمع الأكاديمي في معظمه لوضع نهاية لنظام انتخاب القيادات الجامعية" ، وهو كلام كذب ونصب ، يكفيك في فضائحيته أن صاحبه عجز عن أن يذكر اسمه ، وبطبيعة الحال سيكون مثيرا للسخرية سؤال هذا الكذاب المتآمر عن الإحصائية واستطلاع الرأي الذي أجري بين عموم الجامعات المصرية وأكاديمييها ثم ظهرت النتيجة أن "غالبية" تؤيد العودة لنظام التعيين . المشروع قال أن نظام الانتخاب أفرز قيادات غير قادرة على تحمل المسؤولية ، وتفرع عنه تحزبات في الجامعات ، والمثير للدهشة أن هذا الكلام نسخة طبق الأصل من الكلام الذي تردده كل النظم القمعية وغير الديمقراطية في هجاء الديمقراطية ، والقول بأنها لا تفرز الأفضل وأنها تصنع التحزبات والانقسامات في المجتمع ، بينما الزعيم الأوحد هو الذي يحقق الوحدة ، وهو صاحب العين الخبيرة والمنزه عن الغرض الذي يختار الكفاءات النادرة ويمنع التحزبات ، والحقيقة أن الانتخابات هي التي تحيي الجامعات ، وتحيي ضمائر العاملين فيها وحتى الطلاب ، وهي التي تحرك الطاقات وتطلقها وتشعر المجتمع الأكاديمي بقيمته وكرامته وبمسؤولياته وريادته للمجتمع وهي التي تضخ في النفوس الهمم العالية وتجعل العلاقات قائمة على الإقناع والاحترام والحب وليس على القهر والقمع والخوف والتجسس ، والانتخابات هي التي تفرز للجامعات الأفضل ، حتى لو وقعت أخطاء ، فهي تحدث في أي ممارسة ، ولكن المنطقي أن المجتمع العلمي قادر على الاختيار وقادر على الفرز وأمين على رسالته ، وهذه الثقة عندما تنزعها منه فأنت تنزع منه أي وهج للعطاء ، يتحول إلى موظف وإداري بسيط معدوم الموهبة وفاقد للقدرة على الإبداع وضعيف الهمة على العطاء ، فلماذا يعطي إذا كان عملاء الأمن والسلطة في النهاية هم الذين يتصدرون ويقودون الجامعة ، مشروع القانون الجديد جعل تعيين رئيس الجامعة بقرار من رئيس الجمهورية ، باختياره من ثلاثة ترشحهم لجنة ، وعميد الكلية يتم اختياره من رئيس الجامعة باختياره من ثلاثة ترشحهم لجنة أيضا ورؤساء الأقسام يتم اختيارهم من عميد الكلية بنفس الطريقة ، وفي الحقيقة أنه لا رئيس الجمهورية يعرف صاحب الكفاءة من عدمه ولا رئيس الجامعة سيملك حينها القدرة على اختيار ما يؤمن به لأنه يعرف أنه لم يأت لأنه الأفضل وإنما لأنه المخبر الأنشط وبالتالي سيكون اختياره للمخبر الأنشط بين الأساتذة ، وبداهة أن كلمة الحسم والفصل ستكون لجهاز الأمن الوطني ، تماما كما كان الاختيار والتعيين قبل الثورة بناء على مذكرة جهاز مباحث أمن الدولة ، حيث تحولت الجامعات إلى مجتمعات من المخبرين ، يتجسس بعض ضعاف النفوس على زملائهم ويقدمون فيهم المذكرات للجهات الأمنية تزلفا حتى يصلوا إلى المناصب الرفيعة ، ويتجسس فيها طلاب على زملائهم بحثا عن مستقبل أفضل في دولة الأمن والسيطرة ، ولقد وصلت أحوال الجامعات قبل الثورة إلى أوضاع مزرية ، حتى وجدنا رؤساء للجامعات أو عمداء لا يختلفون في شيء عن رجل الأمن المحترف ، فوظيفته أمنية بالمقام الأول وسلوكه وأدائه مع زملائه ومع الطلاب أمني بامتياز ، وتخلفت الجامعات المصرية ، وبعضها له عراقة وتاريخ طويل ، تخلفوا عن ترتيب الجامعات الأفضل على مستوى العالم حتى سبقتهم جامعات من دويلات صغيرة ناشئة ، بل لم تدخل جامعة مصرية واحدة فقط في قائمة الخمسمائة الأفضل ، ناهيك عن آلاف الطاقات العلمية والأكاديمية التي هربت للخارج بحثا عن العمل وهدوء البال والبعد عن الصراعات أو التحرشات الأمنية ، أو بحثا عن بيئة جامعية فيها مقومات نزيهة تعين على البحث العلمي وتخدم الابداع ، وفرغت جامعاتنا من آلاف الكفاءات العلمية والأكاديمية الرائعة ، بعضهم تحولوا إلى رموز علمية وطبية وهندسية وفيزيائية وغيرها في العالم كله يشار إليها بالبنان . أهيب بكل الشرفاء من علمائنا وأكاديميينا وأحزابنا وقوى الثورة والأقلام الشريفة بأن لا ينسيهم تراكم الهموم مثل هذه المؤامرات التي تحاك في الظلام ثم نفاجأ بها تدمر ما بقي من مقومات للمستقبل الأفضل ، لا تسمحوا لقوى الثورة المضادة أن تنتصر في الجامعات وتعيد عقارب الساعة للوراء ، فالجامعات هي قاطرة التنمية وقاطرة التطور الثقافي والسياسي والإنساني بكل ميادينه ، لا تسمحوا لهم بسرقة القرار الأكاديمي من أهله وتسليمه إلى الجهات الأمنية ، لا تسمحوا بتلك الجريمة مرة أخرى أبدا .