(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب:23) فى مثل هذه الأيام رحل عنا شيخ المجاهدين المربى الشيخ أحمد ياسين فى (22/3/2004م) ، هذا الرجل الذى أيقظ الأمة بعد ثبات، ودفع فيها روح الجهاد والاستبسال، وربّى جيلا فذًا من المجاهدين المخلصين . عاش الشيخ أحمد ياسين عيشة السعداء، فلم يكن يعيش عيشة الأغنياء المترفين، ولكنه كان سعيدًا بإيمانه سعيدًا برسالته ودعوته وأبنائه الذين رباهم على الجهاد ورآهم أمامه يقدمون أرواحهم ويضعون رؤوسهم على أكفهم ويفجرون أنفسهم فى عدو الله وعدوهم . عاش الشيخ ياسين مُعلِمًا مجاهدًا عابدًا لله تعالى، محبًا لدعوة الإخوان ورجالاتها منذ زيارة الإمام البنا لغزة، وزخرت طفولته بالعديد من الأحداث والمشاهد، واستطاع بصبره وإيمانه أن يتجاوز التحديات التى واجهته وأن يثبت ذاته، حتى أصبح شيخًا للمجاهدين، وحقق الله أمنيته بأن سقط شهيدًا على يد بنى صهيون الغادرين . الشيخ ياسين ومشروع التغيير لقد كان الشيخ أحمد ياسين طرازًا فريدًا بين قادة الثورات الوطنية، فقد نبت مع جذوره الشعب الوطنى، وقاسمه النكبات، وعاش معه فى المنافى والمخيمات التى فرضها الكيان الصهيونى، وكان إيمانه عاصمًا له من اليأس أو الركض وراء السراب أو الأوهام، وقد أدرك قبل غيره حقيقة النوايا الصهيونية، وأن السلام الذى يتحدثون عنه ليس سوى الاستسلام الرخيص، ففضل تسمية الأشياء بأسمائها وعدم إضاعة الوقت، وقد جاءت نهايته مصداقا لما آمن به ودعا قومه لإدراكه . لقد أراد أن يقدم النصح لأمته والعالم فى حياته، لكن مناخ الخديعة والاستسلام كان أقوى من محاولاته، وكان لابد أن يقدم النصح مشفوعًا بدمه ودم إخوانه . لقد بدأ الشيخ مشروعه التغييري منذ بداية الخمسينيات، وأخذ هذا المشروع بعدًا تربويًا وتنظيميًا فى الستينيات والسبعينيات أفضى بعد ذلك إلى تأسيس حركة حماس لتقوم بدورها فى الجهاد وضرب الاحتلال ودحره بكل ما يمكن من قوة، وعدم الخروج بهذه العمليات عن دائرة فلسطين كلها، وتحريم توجيه السلاح إلى صدر فلسطينى . وظهور هذا المشروع وتطوره برغم الضغوط الاستعمارية الهائلة على المنطقة العربية والإسلامية – وفى القلب منها فلسطين – يشير إلى ثقة أكيدة فى تحقيق وعد الله بتحرير فلسطين مهما طال الزمن على أن يتم الإعداد له باستراتيجية جهادية متكاملة، تبدأ من تربية الأجيال تربية إسلامية تعتمد على أداء الفرائض الدينية، ودراسة كتاب الله دراسة واعية، ودراسة السنة النبوية، والإطلاع على التاريخ، مع دراسة العدو وإمكانياته ومواطن ضعفه والقوى التى تناصره حتى يتحقق للمسلم وعى صحيح بالواقع وتصور سليم فى الفكر والاعتقاد . الشيخ ياسين وتأسيس حماس نتيجة للجهود المباركة التى قام بها الشهيد وإخوانه، شهدت فلسطين تطورًا واضحًا وملحوظًا فى نمو وانتشار الصحوة الإسلامية، ففى عام 1987م اتفق الشيخ مع مجموعة من قادة العمل الإسلامى الذين يعتنقون أفكار الإخوان المسلمين فى قطاع غزة على تأسيس تنظيم إسلامى لمقاومة الاحتلال الصهيونى بغية تحرير فلسطين، أطلقوا عليه اسم "حركة المقاومة الإسلامية" المعروفة اختصارًا باسم (حماس) . وتعد حركة حماس امتدادًا لحركة الإخوان المسلمين، وقبل الإعلان عن اسم الحركة علنيًا من قِبل الإخوان المسلمين تم استخدام أسماء أخرى للتعبير عن مواقفهم السياسية تجاه القضية الفلسطينية منها )المرابطون على أرض الإسراء) و (حركة الكفاح الإسلامى) وغيرها . وتشير المادة (33) من ميثاق حماس أنها تجاهد اليهود المغتصبين، دفاعًا عن الإنسان المسلم والحضارة الإسلامية والمقدسات الإسلامية، وتعتمد الحركة على الجهاد وتعتبره استراتيجية وليس تكتيكا، وتنص على أن الجهاد فرض عين على كل مسلم وفق المادة (15) ولم ينته الجانب التربوى والدعوى بتأسيس حركة المقاومة الإسلامية، فإلى جانب تولى قيادة الحركة، استمر الشهيد بالقيام بهذا الدور انطلاقًا من المساجد ومن خلال استخدام الوسائل الإعلامية الحديثة، ومع تصاعد أعمال الانتفاضة بدأت السلطات الصهيونية التفكير فى وسيلة لإيقاف نشاط الشهيد، فقامت فى أغسطس 1988م بمداهمة منزله وتفتيشه وهددته بالنفى إلى لبنان. نهاية مشرفة لم يكن يليق للشيخ المجاهد بعد مسيرة طويلة من الجهاد أن يموت على فراشه كما قال مجاهد الرعيل الأول "خالد بن الوليد"، ولما استطاع لسان حاله أن يقول مع سيف الله "لا أقر الله أعين الجبناء" رجل كسيح منذ صباه، ركبته الأمراض فى السنين الأخيرة، حتى أصبح يعانق الموت كل ساعة، ولم يعد لديه ما يقدمه لقضية شعبه، فقدم الثمن الغالى الذى لا يستطيع أن يقدمه سواه، كان من الممكن أن يموت فى أى لحظة لما يموت الألوف من الناس ويطويه النسيان، ولكن القدر أراد أن يعطيه الجائزة الكبرى، وأن يصنع منه أسطورة بطولية، ويحيله إلى طاقة هائلة تتدفق فى شرايين الشعب المجاهد وشرايين العرب والمسلمين . لقد أراد له القدر أن يكون أنشودة يتغنى بها المجاهدون فى جبال فلسطين، وعلى امتداد الرقعة العربية والإسلامية لأجيال كثيرة . لقد أثبت الشيخ ياسين فى حياته ومماته أن القوة المسلحة لا تستطيع أن ترهب شعبًا يتمسك بحقوقه المشروعة، وإذا كان الكيان الصهيونى يعتقد أن بوسعه أن يجعل المستعمرين أغلبية فى فلسطين عن طريق الهجرة والاستيطان، فإنها ستظل أقلية منبوذة تافهة فى المحيط العربى والإسلامى، ولا شك أن استشهاد الشيخ أحمد ياسين سيغنى عن كل منطق فى دفع العرب نحو التضامن لحماية ديارهم أمام هذا الوحش الدموى . رحم الله الشيخ المجاهد أحمد ياسين وجميع شهدائنا وأسكنه فسيح جناته، ورزقنا من أمثاله من المجاهدين الصابرين المحتسبين ، وألحقنا بهم غير مبدلين ولا مغيرين . (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) (غافر:51) [email protected]