"ابني كان معاهم في التحرير " . صك غفران يرفعه من ضبط متلبسا بخيانة الأمة في الثورة , ولا مانع أن تقول إحداهن لأنها أم لشابتين : " ابني أختي كان معاهم في التحرير" . المهم أن تكون له أو لها صلة نسب بمن كانوا يبيتون الليل تحت لباس الجوع والخوف في التحرير. والحقيقة لا نعرف إن كانوا صادقين أم لا ؟ لكن لسان حال هؤلاء المتآمرين يشي بأن الأسرة الذكية قد قامت بتقسيم نفسها جيدا, فالابن يرتدي مسوح الثورة, فإن انتصرت قال الأب أو قالت الأم العبارة السابقة , ليصدق عليهم قوله تعالي :: " الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ" . وغير بعيد من مشهد الابن يقف الأب – أو الأم - مع الفريق الآخر يرشد ويوجه ويضع خطة الانقضاض علي الثورة , والابن الموجود في التحرير- إن كان هناك حقا - هو عين الأب علي الثوار كما يقول لأصدقاء المؤامرة. وهو طبعا محمي بنفوذ الأب وصلته بشلة الفساد إن خاب مسعي الثوار في التحرير . وعندما يكتمل النصر للفاسدين ,سيكون موقف الأب معروف : إذ يمكنه أن يقول وقتها : كان ابني عينكم في الميدان , يخذل الثوار ويلقي في قلوبهم الرعب , في تفسير واقعي للجزء الآخر من الآية والذي يقول " وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ, فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا". ولا تختلف هذه المفارقة الأسرية عن مفارقات أخري عديدة زخرت بها أيام الثورة الأولي والأخيرة ,لعل أبرزها حتي الآن هي أن كثيرا من هؤلاء الذين رفضوا التعديلات الدستورية , والذين كانوا يصرون علي بقاء الجيش لفترة انتقالية أطول هم الأكثر انتقادا وتعريضا بالجيش المصري والقوات المسلحة وتشكيكا في نواياها واتهامها بالتواطؤ والتباطؤ ,فما إن جاءت نتيجة الاستفتاء بقبول التعديلات حتي استحالت حالهم من مؤيدين لمشككين , ومن مساندين لمعادين ليصدق فيهم قوله تعالي " ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " . علي عكس الكثيرين ممن قالوا نعم للتعديلات والذين كانوا أكثر حرصا علي عودة الجيش لثكناته . رغم أنهم الأكثر ثقة في وعوده ومساندة له , والأكثر احتراما لتوجهاته وتفهما لخطواته الحاسمة منها والمتباطئة . أما المفارقة الثالثة فتتمثل في أن جماعة الأخوان المحظورة لم تعد محظورة , فماذا يفعل من كانوا يصبون جام غضبهم علي الإسلام في صورة الجماعة ؟ انتقلوا بسرعة للسلفيين ليصبوا أيضا جام غضبهم علي الإسلام ولكن مع اختلاف مسمي من تنهال عليه سهامهم المسمومة . أما الذرائع التي يسوقونها لكيل التهم والسباب فمتناقضة , فتارة يرفضون مشاركتهم رغم أنهم طالما عابوا عليهم انصرافهم عن السياسة , وهم في الوقت ذاته يتأففون من وجودهم علي الساحة قائلين من أين أتوا ؟ وكأنهم خروا من السماء أو هوت بهم الريح علي أرض الكنانة في غفلة من الزمان , وهم في قول ثالث يؤكدون أنهم سيطروا علي الشارع وضحكوا علي الشعب المقهور وأقنعوه بنعم من أجل الجنة , في إشارة واضحة إلي أنهم ملح هذه الأرض وترابها وأدمتها . ولا تملك إزاء ما تسمعه من تناقضات إلا أن تستشعر قوله تعالي وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ " . المفارقة الرابعة هي هذا الكسل الفكري العجيب الذي يتميز به من يطلقون عليهم " النخبة " وما هم بكذلك إلا عند أنفسهم أو عند من شابهوهم . فكثيرون منهم عزفوا عن القراءة والتدبر واستحضروا عبارات إنشائية محفوظة في الرد علي خصومهم, حتي إن بعضهم لم يقرأ نصوص التعديلات الدستورية المطروحة ,وإنما اعترض بغير علم ومن هنا كان من السهل علي المراقب أن يلحظ أنه كلما سألت أحد هؤلاء الذين كانوا يتحدثون عن التعديلات الدستورية باعتبارها تعديلات مرفوضة عن سبب رفضهم لا يقدمون لك فكرة أو أسباب وجيهة أنما يكتفون بضرب الأمثلة من عينة ."لما يكون عندي بيت مش نظيف , أقعد فيه ولا أنظفه الأول " . أو تلك العبارة السحرية التي تناقلتها ألسنتهم باستسلام منقطع النظير وهي " لماذا نرقع الدستور , واحنا ممكن نعمل دستور جديد " المفارقة الخامسة هي تلك الحجة البليدة التي يستند إليها محترفو القفز علي الثورات والتي تقول : لابد من إزالة النظام القديم بأكمله – صالحيه وطالحيه - لنبني نظاما جديدا "علي نظافة" ,.فيا من احترفتم لي عنق الحقيقة: أليس الأفضل أن نقول: من أحسن فلنعنه ونقدر صبره وثباته عند اشتداد الظلمة , ومن أساء فلنقومه . أم أنكم تريدون اقتناص ما يمكن اقتناصه بدعوي الثورية والتطهير , فما معني أن يقول أحدهم علي الشاشة لابد من تغيير كل رؤساء الأقسام في الصحافة والشركات والمصالح , فقد كانوا موجودين في ظل النظام القديم واستمروا في مناصبهم لعدة سنوات , إذن فسيادته يري أنه ينبغي أن نعاقب الشريف منهم كما نعاقب المفسد . وأن نعتبر تراكم الخبرات عيب نحاسبهم عليه , ونسألهم جراء ذلك ترك وظائفهم . أنتم الثورة المضادة يا من تريدون مساواة الشريف بالمفسد, ليكفر الشرفاء بالثورة ويغتنم خيرها من كان من حسن طالعه ألا يطلع علي فساده إلا الله ونفر من المحيطين به . المفارقة الأخيرة – علي الأقل من وجهة نظري – هي انتشار عبارة الانفلات الأمني انتشار النهار في الهشيم, رغم أنني وعن تجربة شخصية لي ولبعض ممن أعرفهم , وعن معاينة لأكثر من موقف شاهدت التحاما بين فئات المواطنين علي اختلافها في مواجهة المجرمين والبلطجية, رغم أنهم كانوا في وقت سابق من عهد الرئيس المخلوع قد بلغوا درجة من السلبية لا حد لها , لدرجة أن ثلاثة من محترفي الإجرام قتلوا شابا في أتوبيس نقل عام لمجرد أنه حذر عجوزا من سرقتهم لها , فأنزلوه من الأتوبيس وقاموا بذبحه دون أي تدخل من الركاب . أما الآن, فنلحظ درجة أو أخري من المبادرة والتلاحم لمواجهة الخارجين علي القانون لدرجة كدنا نقترب معها مما كنا نشاهده قديما في أفلام السينما المصرية من انقضاض المواطنين علي أي لص ينكشف أمره . آخر هذه المواقف التي شاهدتها بعيني منظر إلقاء الشباب في شارعنا القبض علي أربعة من اللصوص كانوا قد قاموا باختطاف حقيبة أحدي السيدات , رغم أن هذه الحادثة كانت مشهدا مألوفا في شارعنا الواسع من قبل, بل كانت هذه الواقعة تحدث أسبوعيا بلا حسيب أو رقيب أو معين للنساء المسروقات, وكانت صراختهن تتلاحق من فرط الترويع فلا تجد من يهدئ الروع أو يعد بمطاردة اللصوص . مرفت عبد العزيز صحفية بالأهرام