لاشك أن فلسطين بحاجة إلى حكومة وحدة وطنية تواجه التحديات الخارجية والمخططات الإسرائيلية التي لا تحاول فقط معاقبة الشعب الفلسطينية على خياره، بل والانقضاض التام على أحلامه تحت مسميات خطط الانفصال أحادية السلوك والنتيجة، ولكن اضطرار حماس لحكومة اللون الواحد هي معذورة أمام شرائح ومكونات الشعب الفلسطيني، لأنها حاولت وقدمت كل الصيغ التي ذهبت بعيداً في مرونتها لتجاوز إشكالية البرنامج السياسي، رغم أن "حماس" بصراحة لم تكن ملزمة بمناقشة الطرح السياسي لحكومتها للأسباب التالية: الحكومة الفلسطينية صيغة للبرامج الداخلية وليس للمفاوضات السياسية، دون أن يعني هذا حق "حماس" أن تسعى بالوسائل القانونية والسلمية لتغيير معادلات التسوية الظالمة، ولعل انجاز تغيير سياسي مرتبط أكثر بإصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، وليس بإصلاح السلطة وحسب. حماس فازت على أساس برنامج واضح حاز على ثقة شعبية واسعة، وليس مطلوبا منها أن تقدم على تنازلات لبرامج سقطت واقعياً وشعبياً. الانتخابات التشريعية أجريت على أساس عقد شرعي، توافقت عليه القوى الفلسطينية جميعا بما فيها القوى التي لم تشارك، واتفق عليه في "القاهرة"، وهو يمثل القاسم المشترك، وحماس على ضوئه غير ملزمة بتقديم صيغ جديدة. وقد تذرعت القوى الفلسطينية، بعدم قبولها صيغ "حماس" السياسية بالأسباب التالية: * عدم قبول "حماس" بمنظمة التحرير الفلسطينية: وهذا مبرر يناقضه عقد القاهرة الذي وقعت عليه "حماس"، والتي تؤكد على أهمية المنظمة والحاجة لإصلاحها، أما الإصرار على إعطاء الشرعية للمنظمة الحالية دون ارتباط ذلك بالحاجة لإصلاحها على أسس جديدة، فيه تعسف، باعتبار منظمة التحرير جسم مختل في أهدافه وآلياته، ومن حق "حماس" التي لم تكن شريكة فيه، أن تقول كلمتها حين يجري إعادة صياغتها حسب اتفاق القاهرة . * عدم قبول "حماس" بوثيقة إعلان الاستقلال: رغم احتواء وثيقة الاستقلال على إيجابيات كثيرة، إلا أنها تتضمن اعترافاً حمساوياً بدولة إسرائيل، وبالتسويات وقرارات الأممالمتحدة ونفي واضح لحق وخيار المقاومة الفلسطينية من بوابة خلفية، فالسؤال المركزي: لماذا مطلوب من حماس التأكيد على هذه المعاني التي تتناقض مع برنامج حازت على أساسه الأغلبية الساحقة ..أليس في ذلك تنكر منها للعقد الاجتماعي الذي فوضت على أساسه، ثم ألا يدلل ذلك على تضحية من حماس بلا مقابل، ثم ألا يدل على ذلك على شروط تعجيزي لا تريد الوصول إلى قاسم مشترك؟ * عدم قبول "حماس" بالتسويات القائمة: وهذه كمن يطلب من "حماس" أن يعترف باتفاقيات ماتت في واقعنا الفلسطينية، وثبت لدى كل عاقل أنها اتفاقيات بالغة الظلم، فلماذا يراد أن يُقتل حتى الحلم الفلسطيني، ولماذا الإصرار على اتفاقيات لا تلتزم إسرائيل التي وقعت عليها؟ لذا وحسبما نرى، فإن الأسباب آنفة الذكر لم تكن سوى أسباب مظهرية قصد منها، إما إضعاف شرعية حماس وممارسة المزيد من الضغط عليها جنبا إلى جنب مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، أو بقاء "حماس" وحيدة في ملعب تحديات السلطة أملا بالتشفي والنظر إلى سقوطها من بعيد. لكن من باب الدقة والإنصاف، فإننا لا نستطيع القول إن القوى الفلسطينية كلها في سلة واحدة في أسباب الرفض، فمنهم من يريد ابتزاز حماس ومساومتها على أثمان وحصص في السلطة، ومنهم من هو مدفوع بالضغط الأميركي والإسرائيلي، ومنهم من يريد وضع عراقيل إضافية لإسقاط حكومة "حماس" في أعجل ما أمكن...ولكن جميع الفصائل برأينا تتقاطع عند الأسباب التالية: الخوف من توجه الشعب الفلسطيني بشكل أكبر نحو برنامج حماس الفكري والسياسي، وبالتالي الخشية من الذوبان. محاولة دفع "حماس" لتحمل اختبار السلطة وسيئاتها لوحدها، مع معرفة الجميع أن حجم الضغوط كبير. الخوف من العواقب الأميركية والإسرائيلية، وما جرى في سجن أريحا درس لمن يتجرأ! رغم أن الفصائل الفلسطينية غلَبت النظرة الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية العليا في التعامل مع محاولات "حماس" لضمها، فإن استماتة "حماس" في انجاز حكومة وحدة وطنية أغرى الفصائل بها، ظنا منهم أن حماس تريد من خلف ذلك حماية ذاتها والحصول على استحقاقات السلطة دون تحملها لأثمانها ... مما حدا ببعض الفصائل إلى مطالبة "حماس" بديمقراطية توافقية تسوي بين من جلب على ثلاثة مقاعد مع الحائز على سبعين... وهذا استخفاف بإرادة الشعب الفلسطيني، بل محاولة للانقلاب على خياره ..لأن من يرفض تحمل المسئولية الوطنية وقراءة الرغبات الشعبية هو ذاته من يتنكر لها وان قبل مظهريا نتائج الانتخابات وتغنى بها . عموماً نجاح أو فشل حماس يتحدد من خلال ثلاث موازنات يجب أن تأخذ بعين الاعتبار: 1- الموازنة بين ثوابتها الفكرية والسياسية، والوقائع الدولية. 2- الموازنة بين برنامج المقاومة والتحرير وبرنامج السلطة والبناء. 3- الموازنة بين المصالح الحركية الذاتية والمصالح الفلسطينية العامة، والمتطلبات الدولية الكلية. لا يجب التقليل من حجم الضغوط التي تواجه حماس، لأن العوائق كبيرة، وحماس لا تملك عصا سحرية، ولكنها إن مُكنت فستصنع الكثير. دعنا نتعامل مع المستقبل من خلال الحكمة التي تقول تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة... لأنه إن فشلت "حماس" بفعل ظروف قهرية وعوائق جدية خارجية، فلن تكون القوى الداخلية بريئة مما جرى.. وسيكون من الوهم المراهنة على انخداع الشعب وانفضاضهم عن "حماس" لأنها صمدت وتمسكت بثوابتها ورفضت أن تقايض الكرامة بالخبز .. فالسلطة وسيلة، وحينما تفشل هذه الوسائل لأسباب قهرية، فهذا لا يعني أن يُضحى بالهدف لصالح الوسيلة .. وعندها سيتأكد لدى الشعب الفلسطيني أن هذه السلطة لا يراد أن تكون أداة صلاح وبناء بل معول هدم وفساد .. وأن المال الغربي ملوث بالدم الفلسطيني.. وأن الفساد الفلسطيني مرتبط بالضرورة مع التسوية السياسية المصدر : العصر