أخيرا ظهر الخيط الأبيض من الخيط الأسود ، وقطعت كل الظنون ، واختفت كل الاحتمالات بخصوص ترشح السيسي للرئاسة ، أمس أعلنها الرجل في خطاب متلفز حاول فيه أن يكون دقيقا وملتزما ومراعيا لكل كلمة وكل جملة ، من فرط التوتر والحيطة ، حتى أنه رغم أنه كان بالعامية قرأه من جهاز "أوتوكيو" أمامه ، وأكد السيسي في كلمته أن هذا هو اليوم الأخير له بالزي العسكري في مؤشر على أنه تقدم باستقالته من القوات المسلحة ثم من وزارة الدفاع صباح اليوم ، كانت كل الحسابات المنطقية والسياسية تعطي أن السيسي لن يخوض هذه المغامرة لخطورتها والتحديات الضخمة التي تنتظره ، وكان الرهان الوحيد لترجيح ترشحه يعتمد على "المكون الفطري" في الإنسان والدوافع النفسية وأشواقها لمنصب ما زال هو الأرفع في الدولة المصرية ، حسنا ، أعلن السيسي ترشحه ، وكان يبدو في كلمته مخطوف الوجه وبادي الإرهاق ، لأنها لحظة قلقة جدا وأكثر خطورة من خطوة إطاحته بمحمد مرسي ، فمنذ هذه اللحظة ومصير السيسي السياسي والقانوني والأمني حتى إعلان نتائج انتخابات الرئاسة معلق على "كلمة شرف" لا أكثر . لم يكن هذا هو التفسير الوحيد للونه الشاحب ووجهه المخطوف وهو يلقي كلمته ، فمجمل الصورة التي تشاغل عينيه وخاطره لمستقبل البلد كانت حاضرة وبقوة في مشاعره وفي كلمته ، كما أن انحسار موجة التفاؤل الشعبي بشخصيته وانعقاد الآمال عليه تراجعت بقوة في الأشهر الأخيرة بعد الانهيارات المتوالية في الأداء الأمني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وبدت صورة مصر أكثر كآبة من ذي قبل ، ولو أن السيسي أعلن ترشحه قبل سبعة أشهر لتفجرت ميادين مصر بحشود جماهيرية عفوية ابتهاجا بإعلانه واستبشارا به فور إعلانه ، ولكن الذي حدث أمس أن كلمته مرت بهدوء مدهش وتلقاها ملايين المصريين بنظرة حائرة ومشاعر باردة مملوءة بالشك والقلق وغياب اليقين ، ورغم محاولات النفخ الإعلامي وصناعة فرح إلا أنه لم يخرج سوى عشرات الأشخاص للتعبير عن ابتهاجهم ، وهو مشهد بدون شك شديد التعبير ، ولن يمحوه أو يغير من دلالته اهتمام بعض الأجهزة بعد ذلك بالترتيب لاحتفالات مصطنعة بالتنسيق مع متعهدي "المواطنين الشرفاء" وبعض المؤسسات الطائفية ، السيسي يعلم الآن أن حضوره يوم أطاح بمرسي يختلف جذريا عن حضوره الشعبي الآن . لا أوافق على المبالغات التي قيلت في الاعتراض على موضوع إعلان كلمته في التليفزيون الرسمي للدولة ، فلا يوجد خطأ جوهري في ذلك ، فما زال حتى لحظتها نائب رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة ، لكن الخطأ الفادح أن يعلن السيسي ترشحه للرئاسة وهو بالثياب العسكرية ، إنها الإعلان الصريح قصد أو لم يقصد أنه مرشح الجيش ، وهي هدية كبيرة لمن وصفوا إعلان 3 يوليو بأنه انقلاب عسكري ، كما أنها تضع المؤسسة العسكرية في قلب المعركة السياسية وتوابعها ، فنجاحه نجاح لها ولكن فشله يعني فشلها بكل تأكيد ، فضلا عن أن هزيمته في الانتخابات وهي افتراضية بطبيعة الحال ستكون هزيمة للمؤسسة العسكرية ، قولا واحدا ، كان هذا خطأ كبيرا ، وكان المنطق والعقل يدعوانه لمخاطبة الناس بالترشح لمنصب مدني وهو بثياب مدنية ، كمرشح مدني ، وفي كل الأحوال فإن الطريقة التي ترشح بها السيسي وانتقل بها من القائد العام للجيش إلى مرشح الرئاسة هي تحول كبير في طبيعة الصراع السياسي في مصر ، وسيضع الجيش في مواجهة مخاطر عديدة على المستوى الشعبي والسياسي والأمني ، فهي ليست مباراة في كرة القدم ، ولكنها مباراة سياسية لا تعترف بالمحددات الأخلاقية ، ويتولد عنها أحقاد وعداوات وضغائن وتربص ورغبات لرد الصفعات والتشهير والضرب تحت الحزام وإفشال الخصوم . في كلمته التي أعلن فيها ترشحه زاد السيسي من إحباط الناس على إحباطهم ، لأن محصلة الكلمة بعيدا عن بعض الكلمات العاطفية القليلة تعني أنكم مقبلون على "أيام صعبة" ، وأنني لا أملك الطاقة للإنقاذ وحدي ، ولكني سأجتهد ولن أقصر ، ولكن البقية عليكم ، لا بد أن تتحملوا وتصبروا ، لقد صبر هذا الشعب أجيالا عدة حتى قام بثورته ، وهو لا ينتظر "منقذا" لكي يصدمه من جديد بأن يطلب منه "المزيد من الصبر" ، خاصة وأن الإجراءات التي تم اتخاذها طوال الأشهر الماضية يتحملها السيسي والمؤسسة العسكرية بالمقام الأول ، والشعب ليس شريكا فيها بأي معيار ، فلماذا يدفع الناس ثمنا لقرارات خاطئة وعنيفة ومتطرفة وغير محسوبة ثم يبتلعون فكرة قبول قائد هذه القرارات لكي يستمر في المجهول ، أيضا فإن السيسي لم يقدم أي إشارة أو مفتاح يبدد غموض الصورة السوداوية للمستقبل ، والحديث عن استعراض القوة هنا ضد التحديات أو الإرهاب غير مفيد ، لأن اختراقا واحدا للإرهاب يمكن أن يكلفك موسما سياحيا كاملا ويدفع بملايين المصريين إلى البطالة ، فالقوة هنا بدون منظومة للعدالة الشفافة والإصلاح السياسي الشامل لا قيمة لها . أخطر ما يواجهه السيسي في مغامرته الجديدة ، هي أنه يبدأ مشواره من حيث انتهى حسني مبارك ، فمبارك حتى يقع الانقسام عليه ثم تتشكل معارضة شعبية ضخمة ضده ، احتاج لأكثر من عشرين عاما تقريبا من حكمه ، ثم انتهى في العشر سنوات الأخيرة إلى الكوارث التي أدت إلى الثورة عليه ، السيسي يبدأ الرحلة في المحطة الأخيرة قبل الثورة ، وهو يواجه الانقسام الاجتماعي والسياسي الخطير ، والانفلات الأمني المؤسس على مظالم ومرارات يصعب تجاهلها ، واقتصاد منهار وأسباب تفاقم انهياره ما زالت قائمة وممتدة لسنوات مقبلة في ظل السياسات الحالية ، ولعل هذا ما جعل اللغة المتفائلة التي استخدمها السيسي عقب إطاحة مرسي من مثل "بكره تشوفوا مصر" ، وقد الدنيا وها تبقى قد الدنيا ، اختفت تماما من خطاب السيسي وحتى من كلمته للترشح ، وحلت محلها لغة محبطة ومتشائمة ، وحتى صورة وجهه لمن تأملها وقارنها مع صورته أيام النشوة في أعقاب 3 يوليو ، فالبهجة والثقة والتفاؤل الكبير تحولت إلى معالم إحباط وإرهاق وقلق مرسومة بوضوح على وجهه .