كرة الحراك الشعبي التي انطلقت منذ الرابع عشر من يناير تتدحرج.. وتقطع عددًا من المحطات.. ونتوقف في هذه العجالة عند محطة الخامس والعشرين من فبراير العراقيَّة.. حين أخذت مدن العراق وميادين التحرير فيه تشهد إرهاصات ثورة.. تدل معظم مؤشراتها على احتمالية ارتفاع منسوبها واتساع قاعدتها وتصاعد زخمها.. الانتفاضات العربيَّة كلها واجهت أعداء وقوى شدّ عكسي.. إلا أن انتفاضة العراق يبدو أنها متعددة الأعداء والخصوم وقوى الثورة المضادَّة.. فهي في مواجهة الاحتلال وحكومة المنطقة الخضراء وشركاتهم الأمنيَّة من جهة.. وإيران وأجهزتها المتغلغلة في مفاصل الدولة العراقيَّة من جهة ثانية.. وأحزاب العمليَّة السياسية والمنتفعين من جهة ثالثة.. وحكومة كردستان من جهة رابعة.. فضلا عن قوى خفيَّة أخرى.. ناهيك عن التعتيم الإعلامي الذي يفرضه إعلام مذعور مرعوب... يعزف عن تغطية مجريات الانتفاضة العراقية.. وإن فعل فيبتسر الصورة ويغطي على كثير من الحقائق.. كل هذه القوى تبدو وكأنها تتعاون فيما بينها لتجعل مهمَّة الثوار العراقيين شبه مستحيلة.. فبعد ثمان سنوات احتلال.. وحكومات عميلة فاسدة.. خرج العراقيون تدفعهم فطرة المواطنة وحس الكرامة الوطنيَّة والإنسانيَّة.. خرجوا يعلنون الغضب والندم والكرامة.. خرجوا باختصار لإسقاط النظام وإنهاء الاحتلال وإلغاء الاتفاقية الأمنية معه..(أي لإسقاط معادلة الصمت والخضوع)!! وجد العراقيون أنهم أمام وطن منهوب بدءًا من أموال البطاقة التموينيَّة وأموال تطوير بغداد.. وصولًا إلى عقود النفط.. وبيع أثمن الآثار العراقيَّة.. وجدوا أن وطنهم بات وطنًا للكوارث والمآسي الإنسانيَّة.. وجدوا أنفسهم أمام سؤال الطائفيَّة والعرقيَّة المعقَّد.. التي قد تُفقدهم حياتهم عند أي خط من خطوط التماس.. وجدوا أنهم أمام وعي يُراد له أن يتشكَّل عبر مفردات الاجتثاث والقتل على الهويَّة.. فكان لا بدَّ لهم من الانتفاض والثورة.. إعلانًا للغضب.. واحتجاجًا على الظلم والطغيان.. وتأكيدًا على أنهم ما زالوا أحياء ينتمون لوطن الحضارات.. فكانت انتفاضة الرفض.. انتفاضة التغيير والكرامة والانتصار للإرادة الوطنيَّة الحرَّة.. انتفاضة من أجل عراق حرّ إنساني.. انتفاضة من أجل نهضة العراق ورفعته ودوره اللائق به بين الأمم والأوطان.. انتفاضة لإسقاط كل ما سعى الاحتلال وحكوماته إلى تكريسه من مفاهيم ووقائع على الأرض والإنسان.. فكان من المتوقَّع أن يأتي الردّ الحكومي على ما جاء عليه.. فالمالكي رغم محاولاته للاختباء خلف معسول الأكاذيب وخداع العمليَّة السياسيَّة.. فإنه سرعان ما يعود لموقعِه كرئيس حكومة عميلة غير وطنيَّة.. استبقَ الانتفاضة بسلسلة من التهديد والتخويف والإرهاب والترغيب والرشاوى.. ورفع عددًا من الفزاعات والرسائل لمن يهمُّه الأمر في الخارج.. وما أسهل أن تقصف هذه الطغم المستبدة شعوبها بفزَّاعات الإرهاب والأجندات الخارجيَّة والعمالة والغوغائية.. -فسبحان الله- يكاد المريب أن يقول خذوني.. وكل إناء بما فيه ينضح!! عزف الطبَّالون والزمَّارون على تصريحات مكرَّرة مملَّة من شاكلة أن التظاهرات (مضيعة للوقت وإعاقة للحياة).. وعجبي –إذ لا أدري- أي حياة تعيقها هذه المظاهرات؟؟ لقد استبقت الحكومة الانتفاضة بعشرات الإجراءات التعسفيَّة من أمثلتها إغلاق الجسور المؤدية إلى ساحة التحرير.. والإيعاز لعناصر الأمن بتفريق المتظاهرين بالقوة وإن تطلب الأمر إطلاق الرصاص الحي... وطرد المراسلين والمصوِّرين.. وإعلان حظر التجوال في جميع أنحاء العراق... ومداهمة بيوت قادة التظاهر.. وصولًا إلى حدّ منع ذوي الشهداء الذين سقطوا في التظاهرات من دفن شهدائهم.. ومن ثم تكريم القادة والضباط "المتميزين" بقمع المتظاهرين وقتل الأبرياء وترقيتهم.. ومنحهم قطع أراضٍ مميزة ومبالغ مالية هائلة تراوحت ما بين عشرة ملايين إلى مائة مليون، (ولما لا فالمالكي ورث العراق عن جده)!! كل هذا الفجور يجري دون أن يستفزَّ أحدًا من أركان العمليَّة السياسيَّة البائسة.. لم ينبس أحد بكلمة.. لا مجلس الرئاسة.. ولا مجلس النواب.. ولا حتى من يزعمون بأنهم في المعارضة.. فكلهم ظهروا لنا صمًّا بكما عميًا.. لا عافاهم الله!! وأما عن العرب.. فلا دور ولا كلمة.. فحسبنا الله ونعم الوكيل.. أما الدور الأمريكي والأوروبي فهو دور طبيعي متوافق مع سلوك ودور قوى محتلَّة.. وبالتالي لا تصحُّ المقارنة بالحالة المصريَّة أو التونسيَّة أو الليبيَّة.. فمن غير المعقول أن نتوقَّع من الأمريكيين أو الأوروبيين الضغط على المالكي لوقف الانتهاكات التي يمارسها أو حتى التخفيف منها.. وهم قد جاءوا به ورتَّبوا له المسرح ليظلَّ جاثمًا على العراق ينهب ثرواته دون حسيب ولا رقيب.. مكرسًا للاحتلال وحارسًا لمصالحه!! ولكن وبالرغم من كل هذا الصمت المريب على قمع ثوار العراق بهذه الوحشيَّة.. فإن الانتفاضة ماضية.. ومتصاعدة ومتواصلة.. وسوف تكسب مع الأيام المزيد من الأنصار والساحات.. فمن جمعة الغضب.. إلى جمعة الكرامة والشهداء.. فجمعة الندم.. إلى أيام قادمة تتوالى على درب إعادة العراق لأهله ومواطنيه الحقيقيين.. وتطهيره ليكون وطنًا لجميع مواطنيه..