فقد جاء من قبل وزيرا للتعليم العالي، ولكن كان مجيئه كومضة برق سرعان ما أفلت. التقينا به مرتين، مرة في نادي هيئة التدريس جامعة الأزهر، والثانية في مكتبه بالوزارة. كان في المرتين يستمع باهتمام، بلا تبرم أو ضيق، وإنما بابتسامة تشجع على الاسترسال. ولقد تمنينا أن يعود وزيرا مرة أخرى لإصلاح ما أصاب الجامعة، وتحققت الأمنية. يعلم سيادة الوزير أن الجامعة المصرية تعرضت خلال العقدين الأخيرين لعبث ثلاثة وزراء، عبث شوه صورة الأستاذ. هؤلاء الوزراء جاءوا تباعا وكأنهم متفقون على برنامج لهدم الجامعة، وكل واحد منهم مكلف بمهمة محددة. فهذا تعديل "بهائي" ألغى لعاعة الديمقراطية الوحيدة في قانون الجامعات المتمثلة في انتخاب العميد. وتخفيفا من وقع هذا الإلغاء مد في خدمة الأساتذة المتفرغين إلى أن يطلبوا عدم الاستمرار في العمل. ثم جاءت السياسة "الشهابية" لتلغي مد خدمة الأساتذة المتفرغين، ولتصنف الأساتذة إلى أستاذ عامل تحت الستين وأستاذ متفرغ من الستين إلى السبعين ، وأستاذ غير متفرغ (!) فوق السبعين، وأستاذ متفرغ فوق السبعين (بحكم المحكمة الدستورية). كما حرضت ذات السياسة الأبناء على الآباء وجرأت الصغار على الكبار. هكذا أحدثت هذه السياسة الشهابية اضطرابا في الجامعة لا يزال قائما إلى الساعة، وبلبلة في مفهوم الأستاذ غير المتفرغ الوارد في قانون الجامعات. ذلك أن صفة "غير المتفرغ" تنسحب على من يعين من خارج الجامعة بمكافأة لمدة سنة أو سنتين من الوزراء أو رؤساء الهيئات، وهم بالفعل غير متفرغين للعمل بالجامعة. أما أن تنسحب صفة عدم التفرغ على الأستاذ الأصيل الذي تعدى عمره السبعين فأمر لا يستقيم مع العقل السوي ولا يستسيغه المنطق السليم. مفاد السياسة الشهابية إنهاء خدمة أساتذة السبعين كأسوأ ما تكون النهاية، وطردهم من الجامعة ليواجهوا ما تبقى من حياتهم بمعاش لا يتجاوز الألف جنيه. وإشفاقا على حالهم أنشئ لهؤلاء البؤساء صندوق للصدقة يتكففون منه حوالي ألفي جنيه شهريا. وأخيرا صدر- على مضض- قانون يجيز تعيين هؤلاء البؤساء أساتذة غير متفرغين(!) لمدة أربع سنوات قابلة للتجديد بمكافأة تعادل تسعة أعشار مما كانوا يتقاضونه (منتهى الشح). أهذه نهاية من أفنوا أعمارهم في إعداد الأجيال، أبدلا من التكريم المادي والمعنوي يكافئون بالجحود والنكران، أبدلا من مكافأة نهاية خدمة يجازون بالإهمال واللامبالاة. أما الوزير الثالث فقد جاءت سياسته "الهلالية" كسحابة سوداء ألقت بظل كئيب على المجتمع الجامعي. سيادة الوزير... لا يساورني شك في أنكم تعلمون ما أصاب شيوخ العلماء، وستسارعون إلى محو العبث الشهابي المتعمد والرجوع إلى الحق بتعيين كل من يبلغ الستين أستاذا متفرغا إلى أن يطلب عدم الاستمرار، وحين يطلب التقاعد تصرف له مكافأة نهاية الخدمة ليستعين بها في ضعفه على مواجهة قسوة الحياة. إعادة الهيبة والكرامة إلى علماء مصر يجب أن تسبق الحديث عن العلم. العلماء أولا لأنهم هم وعاء العلم. وللحديث بقية إن شاء الله