"أنا إن قدر الإله مماتي لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدي" كلمات تصف وتتحدث عن مصر جادت بها قريحة الشاعر العظيم حافظ إبراهيم وأنشدتها كوكب الشرق أم كلثوم أجدها خير استهلال يمكن أن استهل به هذا المقال، إذ اتضح أن الظُلم هو العنصر الفاعل في تجميع فئات وأطياف المجتمع المصري في ميدان التحرير ومعظم شوارع الجمهورية، بعد أن تحول إلي مارد يجثم فوق أنفاس هذا الشعب الصبور طوال ثلاثين عاماً، ولم يكن أحد يستطيع التكهن متى وكيف يمكن أن ينجلي عن سماء الوطن. لقد دب اليأس في معظم قلوب المصريين، وأصبحوا يشعرون أنهم مهما حاربوا هذا الكابوس فلن تنقشع ظلماته وتأكد هذا اليأس حين بلغ الفجور والطغيان مبلغه لكن الذي لم يكن في حسبان الطغاة هو أن الفساد المكرس والتزوير الممنهج والقمع المنظم أجج النار في قلوب وعقول المصريين دون أن تستطيع أن تنفث عن دخانها الكثيف، وكانت الثورة التونسية الملهمة هي الشرارة التي حركت التروس الصدئة، فدارت عجلة الحرية، ليس في مصر وحدها بل في العالم الإسلامي كله. ومع الجهل والغباء السياسي الذي مارسه الحزب البائد من قمع للجماهير وتزوير لإرادتهم في الانتخابات التشريعية 2010م، مما قضى على أي تنوع حزبي أو فكري في أرض مصر، وجعل الجميع إما مع الحزب الوطني أو آخر غير مرغوب فيه، انفجرت الجماهير كاسرة حاجز الخوف وباحثة عن حريتها في التعبير عن رأيها حتى لو كلفتها هذه الحرية حياتها، فسقط الشهداء واحداً تلو الآخر، مما أجج نار الحرية في قلوب جميع المصريين وفتح الطريق إما للشهادة أو الكرامة، فكانت الشهادة لمن اصطفاه المولى عز وجل، والكرامة لشعب وأمة سلبت ووطئت كرامتها منذ عقود. ومن أجل الحفاظ على هذا النصر وهذه الكرامة التي جاءت بعد عناء وجهاد يجب أن نراقب الحاكم ونقومه، فعندما ارتقى سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) المنبر يستنفر الناس للجهاد، أجابوه قائلين "لا سمعاً ولا طاعة"، لأنهم وجدوه مرتدياً ثوباً يمانياً يستر جميع بدنه، بينما كانت حصة كل واحد من المسلمين لا تكفي لستر جميع البدن، فأجاب (رضي الله عنه) بأنه جمع حصته مع حصة ابنه عبد الله الذي وهبها له فصارت الحصتان ثوباً واحداً يستر جميع البدن، ثم قيل له " والله إن بدا منك اعوجاج لقومناه بسيوفنا"! فأبدى فرحه وسروره من هذا الجواب الذي يبين استقامة الأمة. هذا هو الحال الذي نطمح أن نرقى إليه: قيادة صالحة وأمة حية متيقظة. أما القائد فطالما قبل أن يكون في موضع القيادة والمسؤولية فيجب عليه أن يتقبل النقد والتوجيه بصدر رحب لأن هذا هو الأصل والطبيعي ولأن القيادة التي تقمع إرادة شعبها وتزور إرادته، بكل فجاجة ووقاحة، ليس لها مكان سوى مزبلة التاريخ. ويحكي لنا التاريخ أن أشد ما يفسد الحكام على مدار الزمن "تأليههم" ووضعهم في "تابوهات" يحظر المساس بها، ولأن النفس كما قال خالقها "أمارة بالسوء"، فيجب علينا ألا نقع في نفس الخطايا السابقة.. لا نريد تأليهاً للحاكم بعد الآن.. لا نريد لأحد أن يكون فوق القانون بعد الآن، فإن حدث وأخطأ الحاكم، أياً كان، صوبناه، وإن أصاب شجعناه، لكن لا للتغاضي عن الفساد حتى لا نصنع فساداً فوق الفساد، ثم نصنع بيدنا زعماء التهليل والتصفيق على غرار الحزب الحاكم السابق، وعلى غرار مجلس "سيد قراره"، الذي كانت الموافقات فيه بالإجماع في معظم الأحيان، وبالأغلبية في أقل الأحيان. إن الشعب المصري الذي خرج عن بكرة أبيه إلى شوارع الجمهورية إما ثائراً على الظلم في ميدان التحرير، أو مدافعاً عن المال والعِرض في اللجان شعبية، أو داعياً لإعادة بناء مصر وتنظيفها بأيدي أبنائه البررة، عليه أن يراقب الحاكم ويرده عن ظُلمه إذا حاول الظلم. وأعتقد أنه لكي يكون المجتمع مؤهلاً لهذه الرقابة "الخارجية" يجب عليه أن يصلح نفسه أولاً، فلا يجوز أن يكون سارقاً ومراقباً في آن واحد، ففاقد الشيء لا يصنعه ولا يعطيه. فعلينا أن نبدأ بأنفسنا وأولادنا، ولا داعي للحجج والمبررات الواهية التي كنا نسوقها أيام النظام السابق. ونحن إذ نفتح صفحة جديدة مع وطننا ومع أنفسنا، علينا أن نصلح مجتمعا عشش فيه الفساد لعقود في إثر عقود، علّنا نصبح كالشعوب المتقدمة التي رآها الشيخ محمد الغزالي "شعوب مسلمة بلا إسلام"، لأنها جعلت عمار بلادها ومجتمعها هدفا لها، فصار أغلب الغرب يقدس العمل والوقت، رغم افتقاده دفء الدين، وروح العقيدة. وبعد، ألا يستحق وطنٌ، سالت على أرضه دماء أبنائه من أجل حريته وكرامته، أن يكون أعظم الأوطان؟ ألا يعي أهل مصر قول المولى عز وجل " ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ " فيرابطوا لتحقيق هذا المراد، الذي هم أهلاً له لا محالة.. ألم يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم " خير أجناد الأرض"؟ ألا هل بلغت اللهم فاشهد. [email protected]