تدعو زيارة الوفد المصري بقيادة المشير عبد الفتاح السيسي، إلى إعادة تقييم الموقف الروسي من الربيع العربي برمته، فدعم روسيا للقذافي إبان الثورة الليبية ليس ببعيد، ودعمها اللامحدود لبشار الأسد هو السبب الرئيس لاستمرار المذابح والتشريد، وهو موقف إنساني محز بكل المقاييس، ثم ها هي لا تخفي تعاطفها مع الانقلاب العسكري. علامات استفهام كثيرة وكبيرة حول هذا النهج السياسي الغريب والمريب! أولى محطات التحليل لهذا الموقف لا يسعها إلا أن تقف عند الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فهو الرجل الأقوى في روسيا، وصانع القرار فيها بلا مصاحب ولا منازع. ولد بوتين عام 1952 لأسرة فقيرة في مدينة لينين جراد (سان بطرس برج حاليا) والتحق بعد تخرجه في كلية الحقوق بجامعة لينين جراد بجهاز المخابرات السوفيتي KGB عام 1975 وظل فيه حتى 1991، وهو نفس العام الذي تم فيه حل هذا الجهاز. وبعد تنقله في وظائف سياسية بين سان بطرس بورج وموسكو عينه الرئيس الروسي السابق بوريس يلتسين رئيسا لجهاز الأمن الفيدرالي ثم عينه رئيسا للوزراء في أغسطس 1999. وبعد ثلاثة أشهر أصبح رئيسا بالوكالة بعد استقالة يلتسين في 31 ديسمبر 1999. ثم انتخب رئيسا في مارس 2000 وفي 2004 وبعد انتهاء ولايته الثانية في 2008 عين نفسه رئيسا للوزراء وأتى بديميتري ميدفيديف رئيسا للجمهورية حتى 2012، حيث صار من حقه الترشح للرئاسة، وانتخب بالفعل رئيسا للمرة الثالثة، ولكن لمدة 6 أعوام هذه المرة، بعد أن نجح في استصدار قانون يمد فترة الرئاسة. سيرة الرجل توحي بحب السلطة، التي لم يفارقها مذ أمسك بها، بل إن وصوله إلى إليها في أول أمره يمكن وصفه "بالانقلاب الناعم جدا"، فقد حكى عنه أنه قال على سبيل الفكاهة في اجتماع مع وملائه في الأمن الفيدرالي: "أريد أن أبلغكم أن مجموعة من عناصر الأمن الفيدرالي FSB، أرسلت متخفية للعمل في الحكومة، تنفذ بنجاح المرحلة الأولى من مهمتها"، وبالفعل أتمت المهمة جميع مراحلها بتولي بوتين ومجموعة العاملين بالبوليس السري قيادة البلاد. وقد عمل بوتين على تجميع كل خيوط السلطة في يده، وأدواته في ذلك ترسم صورة مستبد، فهو يمسك بزمام الحكم عن طريق المجموعات المشار إليها آنفا والتي لها خلفية عسكرية ومخابراتية وتسمى "سلوفيك"، وعن طريق بعض أصدقائه المقربين، إضافة إلى أعضاء من عائلة الرئيس السابق بوريس يلتسين. ورسالته إلى خصومه بالداخل: " لا تلعبوا معي"، وقد حملها لهم ما فعله بوتين بكبرائهم من السجن وتجريد الممتلكات مثل ما حدث مع ميخائيل خودوركوفسكي أحد أغنى أغنياء العالم وصاحب شركة بترول تسمى "يوكوس للبترول Yukos Oil"، ما دفع بعضهم إلى الهرب مثل بوريس بريزينوفسكي و فلاديمير جوزينسكي. كما أن الفساد وانعدام الشفافية والمحسوبية واستغلال المناصب سمات واضحة لإدارة بوتين، والأمثلة تعز على الحصر. وقد وصمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية في برقية سرية كشفت عنها وثائق ويكيليكس بأنها "دولة مافيا افتراضية" هذا النوع من الإدارة والحكم حدا بالمحللين والسياسيين إلى إطلاق اسم "البوتينية" عليها، لما تجمع من الشرعية في الوصول للحكم ولاشرعية إدارة الدولة، تجمع بين الشكل الديموقراطي والجوهر الفاشي. ويكفيك أن تعلم أن ثروة بوتين تصل إلى 40 مليار دولار ويمتك قصرا على البحر الأسود ثمنه مليار دولار، وهو على ذلك فوق المسائلة. ملامح شخصية بوتين تتحدد أيضا من الصورة التي يصدرها بوتين عن نفسه داخل روسيا، فهو الرجل الطيب، الميال إلى الشعب، حتى ضد حكومته ورجاله، فهو في النهاية ابن الطبقة العاملة، وقد قال فيها: "النشأة في الطبقة العاملة كالحياة في الغابة"، وأقتبس أيضا عن أيام شبابه قوله: " أنا كنت صايع". ثم هو ذلك الرجل الرياضي المتفتح الواثق من نفسه، وصوره وهو يمارس عدة رياضات تملأ الفضاء الإعلامي، وهو حاصل على الحزام الأسود في الجودو، ما أورث شخصيته مزيدا من القسوة والاندفاع بالأمور إلى نهايتها دونما وجل. بوتين قومي متعصب، وحلم إعادة مجد الإمبراطورية الروسية لم يفارقه، وما تحركاته في الشرق الأوسط إلا ترجمة لهذا الحلم. كما أن تصرفاته تشي بشيء من النرجسية. وهو إلى ذلك جامد الملامح، وفي سبيل تحقيق أهدافه لا يعبأ كثيرا بالأمور الإنسانية، ولا الوسائل، شرعية كانت أم غير شرعية، وقد اكتسب هذه الصفات من خلال عمله في المخابرات. كل هذا انعكس على النهج السياسي للرئيس بوتين وبالتالي على السياسة الروسية، فهو يعلم أن روسيا بوضعها الاقتصادي المتدهور نسبيا لا تستطيع أن تنافس الولاياتالمتحدة وحلفائها في بسط النفوذ على العالم، المرتبط بدوره بقوة الاقتصاد والتفوق التكنولوجي، فلجأ إلى أسلوب من "البلطجة" السياسية، معتمدا على كونه قوة عظمى في السابق، وهذا رصيد ادبي، وعلى ترسانة من الأسلحة النووية، يلوح بها وهو يعلم تمام العلم أن ليس أحد من القوى المنافسة على استعداد للدخول في مناوشات من هذا القبيل. فهو كالممسك بالعصا ولا جزرة معه. يتجلى ذلك أوضح ما يتجلى في محاولته فرض الوصاية على الجمهوريات السوفيتية السابقة، رغم أنها نالت استقلالها، إلا أن موقفه منها هو موقف الذكر مع إناثه إذا اقترب منها غريب. وقد قال مرة لبوش الرئيس الأمريكي السابق " إن أكرانيا ليست دولة بالمعنى الحقيقي". ويكفيك حربه في الشيشان لتدرك قسوته وصلابته. لم تكن لتغيب عن بوتين حقيقة أن بسط النفوذ على الشرق الأوسط، حيث تقع الدول العربية، هو شرط السيادة على العالم، وهي مسلمة جيوسياسية تاريخية، من هنا حرص على دعم نظام القذافي الموالي له، وراهن على بقائه وخسر، لكنه تعلم ولعب بكل الأوراق المتاحة في دعمه لنظام بشار في سوريا. والتي منها تخوف إسرائيل والغرب من وصول الإسلاميين إلى الحكم، وذعر الدول العربية الأخرى من أن تهب عليها رياح التغيير، وهنا راهن وما زال هو المتقدم. يعتبر بوتين مفردات الديمقراطية والحرية مفردات تروج لها القوى الغربية، وهي غير صالحة لكل الشعوب – التي بدورها عليها، أو بالأحرى، على قادتها أن تنضوي تحت العلم الروسي في تكتل ضد الهيمنة الغربية – هذا ما نفهمه من التصريح الذي أدلى به أليكسي بوخوف، رئيس مجلس العلاقات الخارجية بمجلس الدوما الروسي والمقرب من بوتين، إلى وكالة إنترفاكس عشية الانقلاب العسكري في مصر، إذ يقول: "لم ينتج عن الربيع العربي أي ديموقراطية، بل فوضى، وتظهر الأحداث في مصر أنه ليس هناك انتقال سلمي وسريع من الحكم المتسلط إلى سياسية ديموقراطية. ما يعني أن الديمقراطية ليست الوصفة السحرية وأنها لا تصلح في البلاد التي لا تنتمي إلى الغرب" ورهان الدب الروسي هنا يعتمد بالأساس على قوة الضغط اليهودية على الغرب لصالح الانقلاب، والدعم اللامحدود من الجوار العربي المسلم للانقلابيين، وعلى الدعم النسبي للانقلاب في الداخل من قبل بعض الطوائف، وعلى قوة العسكر في القتل والترهيب. يندفع بوتين بالرهان إلى نهايته وهو يعلم أن خسائره محدودة في حال خسر الرهان، مقارنة بما ربحه ماديا من الدول العربية الداعمة للانقلاب ليدعم اقتصاده المتردي. ويعلم بوتين أن المهرولين إليه لا يخطبون ود روسيا من أجل روسيا ولكن ليستثيروا غيرة الولاياتالمتحدةالأمريكية وحلفاءها، فيدفعوهم إلى الاعتراف بهم. استغل بوتين تحرج الدول الغربية المتغنية بالحرية والديموقراطية في الاعتراف بالانقلاب العسكري في مصر، وانقض على الفريسة الكبرى، مشبعا ظمأ مغتصبيها إلى شرعية، أي شرعية، وإلى اعتراف بهم، أي اعتراف، مدركا أنهم يبيعونها بالرخيص، فهي مسروقة، عز أن يجدوا لها مشتريا. يناور بوتين ليدفع بلده إلى موقع السيادة، ويجهد المغتصبون أنفسهم في رد بلدهم إلى درك العبودية!