منذ التحضير المكثف داخليًا وخارجيًا لليوم الأسود المسمّى 3 يوليو 2013 -حيث تمت عملية اغتصاب السلطة مع سبق الإصرار والترصد من رئيس وصلها بإرادة شعبية عبر انتخابات لم يشكك أحد في نزاهتها- وكل المعارك تدور من وراء الكواليس ومن خلف الستار، ويتأخر المعلم الكبير ويقدّم الصبيان والكومبارس والهتيفة، كل يؤدي دوره بمهارة يحسده عليه المحترفون. منذ ذلك اليوم الأسود وانقطعت في بر مصر السياسة، أو تأممت، وعدنا إلى صوت العرب في الستينيات والراحل أحمد سعيد (اسقطنا مأتين طائرة للعدو، وسنلقي بإسرائيل ومن وراء إسرائيل في البحر) خرجنا من السياسة ودخلنا في العسكرة ولغة السلاح ومعزوفة الإرهاب التي بطلت موضتها حتى في البلاد التي ألفتها لتبرر بها توسعاتها الاستراتيجية وتعيد رسم خريطة العالم لمائة سنة قادمة. خرجنا من الثورة لندخل في نظام بوليسي ليس لديه إلا الحل الأمني الذي فشل على كل المستويات والصعد. التردد الحادث في معسكر مغتصبي السلطة (عمدًا) ليس خطة خداع استراتيجي كالتي تمت في حرب أكتوبر، إنما جزءًا من الحالة العامة التي تدير أمور البلد يومًا بيوم: تماما كصاحب البقالة الصغيرة الذي يفتح دكانه صباحا ويرش الماء أمامه وينتظر الزبائن. وتماما كسائق الميكروباص الذي يبدأ يومه بأن يشغل الراديو على محطة القرآن ليسمع بعضًا من الآيات. هذا نظام عام في البلد، يسري على رئيس الدولة ورئيس وزرائها ووزير دفاعها، أقرب ما يكون الأمر للثقافة العامة ونمط الحياة، والفلكلور الشعبي الذي لا يخرج عنه أحد، ولا يستطيع. ليس هناك نظاما معروفا لإدارة الأمور في البلاد غيره، يتساوى في ذلك إدارة بقالة صغيرة أو ميكروباص مع إدارة دولة، المنهج واحد. التردد الحادث في قرار وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الترشح للرئاسة ليس تكتيكا ولا استراتيجية، هم لا يفكرون هكذا، إنما هو تردد من يعلم أنه مقبل على كارثة وليس مغامرة، وأنه سيدفع كل استحقاقات المرحلة السابقة من 3 يوليو. السيسي نفسه يعلم أن من يدفعه للترشح للرئاسة هو نفس من دفعه لعزل مرسي وسجنه وتلفيق التهم له، وهو من يدفعه ويحرضه على استخدام مقدرات الدولة لتحقيق خطته هو أو مصالحه هو وليس لصالح الوطن، ولا لحل حالة الضرورة الوهمية. (نحن في مصر في حالة ضرورة منذ أن نولد وإلى أن نموت، لم نخرج منها ولم نعرف غيرها حالة). التردد الحادث في قرار وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الترشح للرئاسة هو تعبير عن حالة خوف حقيقي مما هو مقبل عليه: يشهد على ذلك كل بالونات الاختبار التي تطلق من وقت لآخر وفي صحف خليجية معروفة بعلاقاتها الوثيقة مع نظام مبارك، وكل نظم الاستبداد في المنطقة. ويشهد على ذلك التصريحات المتوالية عن قرب استقالة وزير الدفاع وإعلانه ترشحه ثم النفي، ونفي النفي، ومقولة ليس كل ما ينفى غير صحيح. كلها أساليب مخابراتية أكل عليها الدهر وشرب، وعفى عليها الزمن، فليس هناك قياسات حقيقية لاتجاهات الرأي العام. وعندما علموا أنهم كالدبة التي قتلت صاحبها، وأنهم ليسوا أهل تخصص ولا مهارة في إدارة الدول وبناء حملاتها الإعلامية ولا قياسات اتجاهات الرأي العام، ولا أساليب تحسين الصورة الذهنية، لجأوا إلى شركة أمريكية متخصصة في هذا الأمر يدفعون لها من مال الشعب، ومن لحمه الحي. هم يدركون أنهم هواة، نَصَبَ عليهم نصف محترف سرق اصطلاحات وتعابير غيره وأفرغها من مضمونها الذي وضعت له وحاول إعادة تعبئتها بمضامين مختلفة، كمفهوم التيار الرئيسي، والذي يريد أن يخرج منه أكثر من ربع الشعب لتستقيم أفكاره المشوشة. ضعف الطالب والمطلوب. التردد الحادث في قرار وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الترشح للرئاسة ليس إلا تعبيرًا عن خوف داخلي من المصير المجهول الذي لن يستطيع أحد التحكم فيه ولو اجتمع له الإنس والجن. حكم مصر ليس نزهة، وليس مكافأة نهاية خدمة كما يقول أخونا الكاتب المتميز أنور الهواري، ومصر بعد ثورة يناير ليس هي مصر قبلها، ونحن إذا كنا نتكلم عن الفرق الرهيب الحادث في ثلاث سنوات، فما بالنا بمن يقدم نفسه عقلا استراتيجيا، وهو لم يغادر عام 1954، نعم كتبت الرقم صحيحًا: 1954. ضارب الودع وفاتح المنجل وكل شهوده أموات. سيكون وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي في أضعف حالاته إذا خاض المغامرة، وقرر إدارة الأمور من أمام الستار، وسيكون في حالة انكشاف كامل إذا قرر الوقوف على خشبة المسرح وأمام الجمهور، هو طول عمره لا يعرف إلا الشغل في الكواليس، وتحريك الممثلين من بعيد. هو غير مؤهل لعب دور البطل، وإن زين له ذلك الكاهن الأكبر، هو ليس عبد الناصر، حتى عبد الناصر نفسه لو رجع لن يكون مصيره أحسن من سابقيه. إذا خلع وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بدلته العسكرية ووقف أمام الجمهور في الواجهة ستكون الحرب معه مباشرة، وسيكون التصويب عليه مباشرة، وهذا أسهل ما يكون على خصومه، وهم كثر ومن كل الاتجاهات، ويخطئ هو، أو يخطئ من يصورهم له على أنهم الإخوان فقط. التردد الحادث في قرار وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي الترشح للرئاسة ليس تعبيرًا عن إعداد مسرع العمليات للمواجهة القادمة، بقدر ما هو تعبير عن (ورطة) وضعه فيها العبقري الاستراتيجي، الذي حاول أن يرسم لهم طريق واضحًا لعزل مرسي ظنا منه أو وهمًا أن عزله أو حتى سجنه هو المشكلة، ثم اكتشف الجميع أن المشكلة هي ما بعد العزل والسجن وليس العزل والسجن. اكتشف الجميع أن الخريطة لم تكن سوى متاهة، وأن الرئاسة ليست نزهه، وأن مواجهة ربع الشعب ليس ترفا بل حربا حقيقية ليست على الإرهاب بل على التخلف الذي قادنا إلى هذا المصير الأسود. منذ 3 يوليو والبلد تراوح مكانها، كل البدائل أكثر كلفة ممن لو كانوا أجبروا مرسي على انتخابات رئاسية مبكرة، وظللنا في طريق السياسة، بدلا من طريق العسكرة والسلاح الذي لا يحل الأزمات، إنما يرحلها.