إن ماحدث فى تونس لهو حدث عظيم يستحق أن نقف عنده وقفات لأن تونس جمعت بين شيئين : الأول أن الطاغية الذى حكمها كان من أشد الطواغيت إن لم يكن أشدهم فى محاربة شعبه فى عقيدته وثانيها أن الشعب التونسى كان من أكثر الشعوب تغريباً حيث عمل الفرنسيون على ذوبانه فى الثقافة الغربية بالرغم من هويته الإسلامية. هذا الواقع خلق شبه إجماع أن الشعب التونسى هو آخر الشعوب التى يمكن أن تنتفض على حاكمها. إلا أن بطولة هذا الشعب قد فاجأت الجميع فأحيت فيهم الأمل من جديد بأن الأمة مازالت حية بعد أن ظن الحكام أنهم قد قتلوا فيهم العزة والتطلع إلى التحرر. نعم إن إنتفاضة شعبنا فى تونس والتى ترتب عليها هروب طاغية قرطاج فى جنح الليل متسولاً ملجأ أو مغارة تأويه ملأت النفوس فرحاً من جاكرتا إلى الرباط وكانت بمثابة نفس الهواء الأول الذى تستنشقه الأمة بعد غيبوبة طويلة. لقد تحطمت مع هذه الثورة كل جسور الخوف التى شيدها الحكام أمام شعوبهم والتى ظن مشيدوها أنها الحصن المنيع الذى يحميهم من غضب الشعوب ، إذ بالجميع يشاهد كيف تتسامى هذه الجسور أمام إرادة الشعوب التى مازالت حية بالشكل الذى ألجأ صناع القرار فى واشنطن وبروكسيل لإجتماعات طارئة لإعادة التفكير فى الأوهام التى صدقوها من عملائهم بأن الشعوب القابعة تحتهم هى تحت السيطرة الكاملة ولايمكن لهم الخروج عن طوعهم . نعم إن كل أساليب التخويف والترهيب الشيطانية التى تعلمها الحكام ليمارسوها على شعوبهم لم تعد رادعة كما كانوا يتوهمون وأن تخيير الشعوب بين خيارين كلاهما مر : إما الرضا بالواقع والخضوع الكامل لهؤلاء الحكام أو القبول بالتغيير من الخارج كما حدث فى العراق، أصبح مرفوضاً ومداساً بالأقدام بل الخيار الثالث وهو أن ينتفض الشعب بنفسه على هذه الطغمة الحاكمة هو الخيار الوحيد المطروح ولاثانى له وهذا مما أعاد الأمل بأن الأمة تمتلك القدرة على إستعادة سلطانها الذى سلب منها. إن هروب طاغية قرطاج بهذا الشكل الجبان المذل أظهر حقيقة الحكام بأنهم أول من يتخلون عن البلاد فى لحظات الشدة وبأنهم ليسوا بقادة كما تصور وسائل إعلامهم ليل نهار، وأن شعارات إصطفاف الشعب خلف رئيسه ماهى إلا أكاذيب يخدعون بها أنفسهم . ففى لحظة تجلت فيها الحقيقة تخلى الجميع عن الرئيس الذى لم يجد أمامه سوى الهروب وكانت الصفعة الأخرى التى تلقاها من حكام إيطاليا وفرنسا برفض دخوله أرضيهما برغم ماقدم لهم من خدمات جليلة على حساب شعبه رسالة قوية إلى الحكام بأن قيمتهم الحقيقية عند أسيادهم لاتتعدى ورقة يتم طيها وقذفها فى سلة المهملات. وأما الجهاز الأمنى الذى أذاق أبناء تونس ويلات العذاب ورصد عليهم أنفاسهم وعد عليهم صلواتهم ونزع الحجاب من على رؤوس نسائهم لم يكن مصيره أفضل حالاً من رئيسهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت وفروا هاربين كقطعان الماشية الضالة وهذه رسالة قوية لأجهزة الأمن فى عالمنا التى تواصل ليلها بنهارها فى حفلات التعذيب لأبناء الأمة المساكين فليتعظوا برفاقهم فى تونس وأن يومهم قد إقترب فإما أن يختاروا الوقوف فى صف الأمة القادرة على حمايتهم بوصفهم أبناءها أو الوقوف فى صف الحاكم الذى لن يستطيع أن يحمى نفسه. ورجال الجيش التونسى الذين إختاروا الوقوف فى صف شعبهم إلى اليوم والتخلى عن طاغيتهم لهو حسن الإختيار وفيه فلاح الدنيا والأخرة إن أكملوا دورهم المشرف إلى النهاية كما يريد رب العالمين. إن عملهم رسالة إلى كل الجيوش لتذكرهم بدورهم المنوط بهم فى نصرة هذه الأمة التى تداعت عليها الأمم وبأن دورهم ليس فى حماية أشباح تضر ولاتنفع بل فى إعادة السلطان المسلوب للأمة والحفاظ على هويتها وقطع كل يد غربية تريد التدخل بالبلاد وتريد بالأمة سوء . نعم هذا هو المعنى الحقيقى للقوة التى هى ملك للأمة. إن المشاهد التى رأيناها يتعانق فيها رجال الجيش مع أبناء أمتهم بعفوية كانت كافية بأن تهز القلوب وتهتز لها الأبدان حباً وتقديراً لهذه اللحمة التى أراد أن يستأصلها الحكام من بيينا. شكراً شعب تونس على ترجمتكم الحقيقية للأية الكريمة "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ". لقد وصلت رسالتكم ليس فقط إلى طاغية قرطاج بل إلى كل الطواغيت القابعين فوق رؤوسنا والذين إهتزت عروشهم ولن تعود لسكونها من جديد لأن إنتفاضتكم المباركة أحيت الأمة وأفهمتها حقيقة حكامها الذين أبوا أن يفهموها بالرغم من وجودهم على كراسيهم منذ عشرات السنين ، حتى وإن تظاهروا بأن ماحدث فى تونس لايمكن له أن يتكرر فى بلادهم . كذبوا فإن الرعب والذعر قد ملأ قلوبهم وأصبحوا يرتجفون بما يخفيه الغد لهم ولكنهم سوف يؤتون من حيث لايعلمون. هاهو الطاغية يهرب من تونس ويأمر من تبقى من زبانيته بأن يعيثوا فى الأرض فساداً نعم هذا هو وجههم القبيح فهم لايريدون للأمة أن تنهض من كبوتها بل هم الذين يحولون بينها وبين النهضة . لهذا لن تكتمل فرحتنا إلا أن تكملوا الإنتفاضة إلى نهايتها بإقتلاع النظام كله ومن تبقى منه ، ولاتتركوا أحداً يستثمر دماءكم الزكية ويلتف على إنتفاضتكم المباركة ليعيدكم إلى ماكنتم عليه من قبل فالعبرة ليست إزالة الحاكم بل إزالة النظام كاملاً دون إبقاء أى شىء منه ، والعبرة ليست بمن يحكمكم بل بما تحكمون به فليكن إختياركم هو ماأختاره لكم ربكم. [email protected]