كنت قد انتويت والنية لله، بناءً على طلب الجماهير، أن أمتنع تماماً عن كتابة أي شيء باللغة العامية، وأن تكون كل كتاباتي سواء البحثية وغير البحثية بالعربية الفصحى، حتى شاهدت إحدى جلسات سيد قراره وكانت جلسة حامية الوطيس، وللأسف لم تكن تبحث مشاكل محدودي الدخل، ولا حل أزمة العشوائيات، ولا تناقش كيفية تنفيذ قرار المحكمة الدستورية العليا بوقف ضخ الغاز المصري إلى الكيان الصهيوني، ولا كيفية عودة اللُحمة (بضم اللام لأن اللحمة بالفتح لم تكن موجودة من قبل حتى تعود) إلى صفوف الشعب المصري، ولا البحث عن حل لوقف قانون الطوارئ لا سمح الله. ولكنها كانت جلسة في قواعد اللغة العربية، فقد قضى الأساتذة الكرام وقت الجلسة كله في تعريف المذكر والمؤنث، محاولة منهم في تشكيل الجملة التالية: (كلٌ في ما يخصه مسئول) ، وقد حُسم النقاش، والحمد لله، على يد أحد النواب الضليعين في اللغة العربية، وقد قال ما نصه (تكون وزارة كذا وكذا وكذا، كل فيما يخصه مسئوله)، دون الإشارة إلى أسماء الوزارات الكذا وكذا وكذا، وقد صوتت الأغلبية الساحقة موافقة بعد تأكيد رئيس سيد قراره على أن المهم في الأمر هو الضبط اللغوي، والذي تم دون تقصير والحمد لله. الم يكن الأهم هو العمل على حل مشاكل الفقر، والجوع، والمرض، وترك أهل اللغة للعمل عليها؟ أم أننا يا سادة يجب أن نضبط المظهر دون الالتفات إلى الجوهر الذي هو لب الموضوع. وهذا بالتأكيد ليس تقليل من شأن لغتنا الجميلة، لغة القرآن الكريم، ولكن مناقشة قواعد اللغة العربية ليس من اختصاص سيد قراره، بل هو من اختصاص مجمع اللغة العربية، الذي هو أهل لها. فقد انشغل النواب المحترمون بضبط قواعد الجملة دون إيجاد حلول لمشاكل الدولة، والتي تعد الهدف الرئيسي من الاجتماعات وعقد الجلسات، والتي يحصل مقابلها كل عضو محترم على مقابل مادي لا بأس به، هذا بخلاف الحصانة البرلمانية التي تتيح له قول الحق دون أن يخاف لومت لائم، وفعل أي شيء في صالح الوطن دون المساس بشخصه الموقر. ولكن للحصانة عند البعض مآرب أخرى، يبذل في سبيلها المال والأنفس أحياناً. و إنني لأعترف أننا شعب هجر القرآن الكريم فهجره في المقابل، وقصّرنا في تعليم وتعلم لغته الرائعة والتي هي أغنى وأمتع لغات الأرض. وإن علينا البدء في إعادة اللغة العربية إلى مكانتها الراقية في العالم كله، ولكن لكل مقام مقال. فلا يصح ترك الناس جياع والبحث عن مكان الفصلة والهمزة، فسيد قراره ليس هو المكان المناسب لإعادة الهيبة للغة، في حين أن أهل اللغة ضاعت هيبتهم وكرامتهم وحتى أعمارهم في البحث عن لقمة العيش. وأذكر أن شاعر الإسلام "محمد إقبال" عندما وجد الشباب المسلم قد انبهر بالثقافة الغربية، وشعر بالخوف عليهم من هذا الطوفان الجارف خاصة بعد انهيار الخلافة الإسلامية، وإن كانت صورية، على يد أتاتورك، قام بإلقاء سبع محاضرات رائعة، باللغة الإنجليزية، جمعت فيما بعد في كتاب سُمي "تجديد الفكر الديني في الإسلام" ترجمه إلى اللغة العربية أول مرة، في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، العلاّمة عباس محمود، وأعاد ترجمته ترجمة وافية كافية أستاذنا الجليل الدكتور محمد يوسف عدس في العام الماضي. وكان السؤال وقتها لماذا ألقى إقبال وهو شاعر الإسلام محاضراته باللغة الإنجليزية وهو يجيد الفارسية والأردية؟ وكانت إجابته أنه أراد أن يُحدث الشباب باللغة التي يجيدونها بسبب الاحتلال الإنجليزي، حيث رأى أن المهم هو إيصال الفكرة وإيقاظ الأمة من غفلتها، فحدثهم باللغة التي يفهمونها وتصل إلى قلوبهم قبل عقولهم. هذا ما نبتغيه أمة الإسلام أن نعمل بالقرآن ونعقله ونتدبره، وندافع عن الحق، بأي وسيلة، وبأي لغة، كل منا في مجاله، وكل منا بطريقته، وطالما خلصت النوايا، تغلبنا على الرزايا، حتى لا نكون مثل نوابنا المحترمين، تركوا الجوهر وتفرغوا للمظهر.