أحببت سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.. فكانت الدراسة والمدارسة والكتابة والخطابة والحديث لا يتزين إلا بقبس من نور السيرة العطرة..صحيح أن الزمان والرجال والأحداث لم تعد كزماننا ورجالنا و احداثنا. .وكم نقرأ أو نسمع من اقتباس يخالف الواقع..لكن.. يبقى الإنسان هو الإنسان.. الراقي أو المنحط .. تبقى تطلعاته للمال والجاه والأمان..تبقى رغباته, تبقى قوته ويبقى ضعفه, تبقى أهمية الارتقاء بسلوكياته (التربية).. ومن ثم يظل التاريخ معلما ومفسرا لكثير من الظواهر, ومن أعظم دروسه سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.. أصل العداء !! تركزت معظم الرسالات والأنبياء في بني إسرائيل (نسل اسحق) .ثم شاء الله أن تنتقل الرسالة الخاتمة إلى العرب (نسل اسماعيل)..فنشأ الحقد التاريخي الذي لم ينقطع .. روى ابن إسحاق في السيرة والبيهقي في "دلائل النبوة" عن صفية رضي الله عنها (بنت حيى بن أخطب حبر يهود) قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم قباء، قرية بنى عمرو بن عوف، غدا إليه أبى وعمى أبو ياسر بن أخطب مغلسَين، فو الله ما جاءانا إلا مع مغيب الشمس، فجاءانا فاترين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فو الله ما نظر إلى واحد منهما، فسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي: أهو هو؟ قال: نعم والله! قال: تعرفه بنعته وصفته؟ قال: نعم والله. قال: فماذا في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت! الغريب أن كثيرا من العرب نسوا أصل الصراع فكان تفضيل وولاء بعضهم لنسل اسحق أكثر مما هو لنسل إسماعيل!! صحيح أن الإسلام لم يأت تدعيما لقومية عربية ضد قومية أخرى..لكنهم هم من يرون الصراع هكذا في احد جوانبه وتبقى جوانب أخرى جديرة بالاهتمام.. عالمية الرسالة كانت الرسالات السابقة لمحمد صلى الله عليه وسلم تأكيدا للمعني الأصيل والكبير وهو توحيد الله سبحانه ومعها مهام خاصة بالزمان والمكان والحال , وجاءت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم استكمالا لما بدأه الرسل الكرام في التأكيد على وحدانية الله سبحانه, ومعها رسالة تتجاوز الزمان والمكان والحال , صحيح أن العرب كانوا طليعة الدعوة, لكن الرسالة لم تقتصر عليهم, فالرب رب العالمين, والنبي للعالمين, والبيت للعالمين رب العالمين : في أول المصحف, وفي مطلع سورة يرددها المسلمون في كل يوم 17 مرة (على الأقل) التأكيد على هذا المعنى (الحمد لله رب العالمين) – فاتحة الكتاب نبي للعالمين : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء . بيت للعالمين : إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) آل عمران . وهنا تبدت دوافع أخرى للعداء لهذا الدين, مع العداء الأول, حين انتقلت الرسالة من نسل اسحق الى نسل اسماعيل.. شمول الإسلام الإسلام دين شامل تنتظم كل مناحي الحياة تحت لواءه, لم يعد ينكر هذه الحقيقة إلا قليل من الجاحدين أو المكابرين, ولم نعد بحاجة لتبيان الأدلة على هذا الشمول, لكن هذا المعنى التبس عند بعض الإسلاميين حينما ظنوا أن شمول الإسلام يعني شمول الوظائف, بينما الشمول هو شمول الرسالة وشمول الخطاب, وهذا ما فهمه المسلمون الأوائل, حينما أدركوا أن الرسول النبي المُبلغ القاضي الفقيه القائد العسكري المُعلم القائد السياسي قد جمع تلك الوظائف لأنه سيقدم القدوة للناس (كبيان على المُعلم – بلغة الجيش) , لكن ما إن لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى, أدرك أبو بكر الصديق أن قيادة أخرى غير معصومة لن يكون لها ما كان للرسول المُبلغ .. فقام بتحديد الاختصاصات, فأصبح عمر بن الخطاب قاضيا, وخالد بن الوليد وأبو عبيدة وغيرهما قادة للجيوش, وهاهو أمير أخر للمؤمنين (الفاروق عمر) كما روى الطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس قال : خطب عمر بن الخطاب الناس بالجابية وقال : "يا أيها الناس ، من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ; فإن الله جعلني له واليا وقاسما". ومع مرور الزمن تحولت تخصصات الأفراد الى مؤسسات.. ومجموع وظائف المؤسسات تعكس شمول الإسلام,ومن ثم لا يعني الشمول قيام إنسان بوظائف متعددة (وربما متباينة), ولا يعني قيام جمعية أو جماعة بكل الوظائف .. إنما يتكامل الأفراد وتتكامل الجماعات وتتكامل المؤسسات لتحقيق شمول الإسلام حين يقوم كل فرد وكل مؤسسة وكل جماعة بوظيفة يتخصص ويبرع فيها اعضاؤها دون مزاحمة للوظائف الأخرى,فما من شك أن تراكم الوظائف وتعددها للفرد أوللجماعة الواحدة ينعكس سلبا على حُسن أداء هذه الوظائف فتكون الأزمات والمشكلات. من زاوية أخرى : فإن شمول الإسلام أضاف تحديا جديدا لهذا الدين, وأضاف سببا جديدا ودافعا كبيرا لعداوته, لأنه يضع قيما ومفاهيم قد تتصادم مع قيم ومصالح أخرى (سياسية واقتصادية واجتماعية), فالسلطة بالرضا, والاقتصاد بلا ربا, والناس سواسية كأسنان المشط .. وللإسلام موقف من الاحتكار وتركز الثروة .. وللأسلام موقف من العدالة التي لا تحابي أحدا (لو أن فاطمة سرقت) ..وهكذا .. بينما يريد فريق من الناس أن يتنحى الإسلام جانبا ويقتصر على اداء العبادات في المساجد والزوايا والتكايا والخلوات .. ما بين مفهوم للشمول لا يعني شمول الوظائف, ويحقق التخصص, وبين مفهوم علماني فج يريد الإسلام خارج منظومة الحياة يبقى الصراع , مالم يحرر عقلاء راشدون المصطلح ويتصالحوا عليه .. هذه خواطر في ذكرى المولد على صاحب الذكرى أفضل الصلاة والسلام , ويبقى أهم ملمح في هذه الرسالة, أنها رسالة رحمة, وأنها ما كانت إلا تتمة لمكارم الأخلاق, ولو أدرك ذلك المسلمون وخصومهم لكان لهذه الرسالة في دنيا الناس شأنا أخرا .. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.