عادت أجواء التوتر والاضطرابات الدموية لتضرب المشهد السياسي والأمني مجددًا في ساحل العاج؛ بعد رفض الرئيس المنتهية ولايته لوران جاجبو القبول بنتائج الانتخابات الرئاسية والإقرار بهزيمته أمام مرشح تجمُّع الجمهوريين الحسن واتارا المعترف به من قبل المجتمع الدولي كرئيس جديد للبلاد يعول عليه كثيرًا لطي صفحة عقد دموي شهدته البلاد وأفضى إلى تقسيمها بين جنوب تسيطر عليه الأقلية المسيحية وشمال تحكمه الأغلبية المسلمة، وهو التقسيم الذي يخشى المراقبون من إمكانية تحوله إلى أمر واقع مع الإصرار على تجاهل نتائج الانتخابات والاحتفاظ بالسلطة من قبل فريق الأمر الواقع في العاصمة ياما سكور. مشهد قاتم وقد زاد من قتامة المشهد تهديد القوات الشمالية بقيادة زعيم المتمردين السابق ورئيس الوزراء المكلف جيوم سورو باجتياح العاصمة وتنصيب الحسن وتارا رئيسًا بالقوة إذا تعرضت قواته لاستفزازات من قبل الجيش المؤيد لجاجبو، وهي تهديدات تؤكد إمكانية اللجوء لهذا الخيار من قبل هذه القوات لفرض الأمر الواقع، خصوصًا أنها كانت على أعتاب العاصمة منذ عدة أعوام، وأوشكت على السيطرة عليها إلا أن التدخل الفرنسي حال دون ذلك، غير أن التطورات الأخيرة واعتراف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي بالحسن واتارا رئيسًا ومطالبته للرئيس السابق بمغادرة الحكم قد يجعل هذا الخيار الوحيد المتاح أمام هذه القوات لحسم الصراع لصالح الرئيس الشرعي. مما يزيد من احتمال اللجوء لهذا الخيار صدور إشارات من وفد الوساطة الإفريقي بقيادة رئيس جنوب إفريقيا السابق ثابو مبكي بصعوبة الموقف في ظل إصرار الخصمين اللدودين جاجبو ووتارا على موقفهما وعلى شرعية انتخابهما، مما يجعل الوصول لحل وسط بين الطرفين أمرًا في غاية الصعوبة، بل يقطع الطريق أمام رؤية روّج لها مقربون من جاجبو تفيد بإمكانية تطبيق السيناريو "الكيني –الزيمبابوي"، حيث يقبل بمقتضاه وتارا تقاسم السلطة والحصول على منصب رئيس الوزراء وعدد من المناصب السيادية لصالح تحالف المعارضة، غير أن كل المؤشرات تؤكد صعوبة تَكراره في ظل وجود موقف دولي وإقليمي قوي مؤيد لوتارا، ورفض لجميع مزاعم خصمه. فريقان متصارعان ولعل ما يجعل التوصل لاتفاق صعبًا بين الخصمين اللدودين كونهما يمثلان فريقين متصارعين؛ أحدهما يمثل التيار الشعبي الايفواري ذا النزعة العنصرية والراغب في هيمنة الهوية الإيفوارية النقية على البلاد بشكل يُقصي حوالي 60%من الشعب عن المشاركة في صنع القرار بذرائع واهية. من هذه الذرائع قدوم هذه النسبة من دول الجوار للعمل كمزارعين في حقول الكاكاو، وهو ما حرم بموجبها زعيم الفريق الثاني "الجمهوريين الحسن وتارا" المدعوم من الأغلبية المسلمة في شمال البلاد من خوض الاستحقاق الرئاسي عدة مرات منذ وفاة هوفوبوانييه؛ بحجة أصول أمه البوركينية، فضلاً عن وجود ميراث من الشكوك بين الطرفين عززته حالة التهميش والحرمان وأجواء التصفية الجسدية التي عانى منها المسلمون منذ الاستقلال حتى الآن، ويرغبون بقوة في التخلص من هذا الإرث على يد وتارا وحلفائه. ويواجه هذا الموقف رفضًا من الأقلية المسيحية بقيادة جاجبو وقادة الجيش الراغبين في استمرار الأوضاع الحالية والحفاظ على امتيازاتهم وهيمنتهم على الساحة انطلاقًا من إدراكهم أن وصول وتارا للحكم مدعومًا من تحالف المعارضة يعني نهاية لحقبة طويلة من التاريخ العاجي، وبَدْء مرحلة جديدة تغلب عليها المواطنة كقيمة وسبيل وحيد للتعايش من جديد بين أبناء الوطن، لذا لم يكن مستغرَبًا مسارعة هذا الفريق إلى إعلان تنصيب جاجبو والولاء له، لفرض نوع من الأمر الواقع، وإجبار خصومهم على القبول بتسوية، ضاربين عرض الحائط بإمكانية تفتيت البلاد، ومتجاهلين تداعيات الموقف الدولي والإقليمي المؤيد لوتارا والراغب في عودة الاستقرار والوحدة للبلاد. توافق دولي وإقليمي وكان لافتًا خلال الأيام الماضية وجود توافق دولي وإقليمي على طيّ صفحة جاجبو؛ من خلال تأكيد كل من الرئيس الفرنسي ونظيره الأمريكي باراك أوبا، ومن قبلهما الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، على الاعتراف بوتارا رئيسًا، وهي مواقف تضيّق الخناق على الرئيس المهزوم، وتجعل مساحة المناورة أمامه وأمام العناصر الموالية شديدة الصعوبة، لاسيما أن المراقبين الدوليين والأفارقة قد قطعوا الطريق أمام المزاعم بحدوث انتهاكات وتجاوزات في الولايات الشمالية بتأكيدهم على أن الشفافية والنزاهة كانت واضحة خلال جميع مراحل التصويت والفرز. ومما يضفي نوعًا من القتامة على موقف زعيم الجبهة الشعبية الإيفوراية إعلان كافة القوى الإقليمية، بما فيها دول مؤثرة في الساحة العاجية مثل نيجيريا ومالي وبوركينافاسو والسنغال ضِيقَهَا ذرعًا بمناورات جاجبو، وتَوْقَهَا إلى مغادرته السلطة، باعتباره كان المسئول الأول عن الاضطرابات التي شهدتها بلاده منذ عام 2000 وخلّفت على البلاد ودول الجوار تبعات اقتصادية مرهقة، وأنهت حالة الرفاهية التي كان يتمتع بها الاقتصاد العاجي، ومردود ذلك الإيجابي على دول الجوار، وهي مواقف ستدفع الأخير إلى معاودة التفكير في الخيارات القليلة المتاحة أمامه. غموض غير أن التأييد الدولي والإقليمي المعلَن للحسن وتارا، والاعتراف به رئيسًا للجمهورية، يطرح مزيدًا من التساؤلات المتعلقة بماهيَّة الأوراق بيد جاجبو للاستمرار في السلطة وتحدي مواقف المجتمع الدولي.. والإجابة تكمن ببساطة في جملة من المبررات، أهمها سيطرته شبه التامة على الأوضاع في الجنوب العاجي، وولاء الجيش وقبائل "bad " له، فضلاً عن دعم استخباراتي فرنسي تقليدي -قد يشوبه التوتر أحيانًا - مكَّنه طوال السنوات الماضية من تحدي الجميع، والقيام بوضع العراقيل أمام تنفيذ اتفاق سلام بوركينافاسو، وتأجيل الانتخابات مرة تلو الأخرى، دون أن يواجه موقفًا دوليًّا يتجاوز المطالبة بتسريع عقد هذه الانتخابات، فضلاً على أن باريس لا تبدي ارتياحًا لخلفه وتارا، وتعتبره معاديًا لها. ولكن هناك من يرفض هذا الطرح، ويقصر توتر علاقات باريس مع الزعيم الشمالي على حقبة الرئيس السابق جاك شيراك، مدللين على تبدل مواقف باريس تجاهه بالاعتراف السريع به رئيسًا من جانب ساركوزي، ومطالبته لخصمه بالقبول بالهزيمة، مما يوحي بأن الجهة الوحيدة التي راهن عليها جاجبو قد تخلّت عنه، ولم يبق أمامه إلا الاعتماد على مواقف الكيان الصهيوني ومنظمات التنصير التي غضّ الطرف عن اختراقها للمجتمع العاجي طوال العقد الماضي، وإن كان تأثير الطرفين يبدو محدودًا جدًّا، رغم أنهما لعبا دورًا في دعم أنشطة فرق الموت في مناطق المسلمين وتأييدهما لتصفية القادة الشماليين، أيمانًا منهما بأن وصول مسلم لسدة السلطة يعني نهاية عصر عرابي الفرانكفونية والموالين للغرب، وتجفيف منابع نفوذهما في البلاد. صراع معقد ومع محدودية الفرص أمام جاجبو للمناورة فإن هناك تخوفًا من عدم إمكانية إيجاد حسم سريع لهذه الأزمة، فالأمر لا يتعلق فقط بانتخابات جرى إعلان نتائجها من قبل لجنة الانتخابات، ونقضها المجلس الدستوري، وإنما يتعلق الأمر بحزمة من الصراعات الدولية؛ فباريس تعتبر ساحل العاج درة التاج الفرنسي في القارة السمراء، فهي من البلدان القليلة التي مازالت تحتفظ فيها بوجود عسكري يزيد على 5000 جندي، فضلاً عن أن الموقع الاستراتيجي للبلاد يوفر فرصًا قوية لتصريف السلع والبضائع الفرنسية في بلدان الغرب والوسط الإفريقي، مما يجعل باريس حريصة على عودة الاستقرار لهذا البلد بشكل قد يدفعها إلى تبديل موقفه والرهان على حلّ وسط، باعتبار أن حسم الصراع بين طرفي المعادلة العاجية قد يضر بمصالح باريس، مع تصاعد احتمالات سعي النظام القادم لإيجاد تسوية للوجود الفرنسي على غرار ما حدث في السنغال، وبذلك تفقد باريس أكبر حليفين لها في القارة الإفريقية خلال سنوات قليلة. خريطة جديدة ولا تقف واشنطن بعيدًا عن هذه التطورات، فموقفها المؤيد لوتارا يعكس رغبتها في السعي لرسم خريطة جديدة في ساحل العاج تؤشر لتنامي دورها في ساحات النفوذ التقليدي لباريس، لاسيما أن تجربتها الناجحة في السنغال تغريها بالرهان على محور وتارا –بيديه، انطلاقًا من كون جاجبو ورغم علاقاته المتوترة بباريس يعد الأقرب للأخيرة هو وضبّاط جيشه، مما يشير إلى ضلوع واشنطن في مسار يفضّل الإطاحة بالرئيس المنتهية ولايته، وبناء علاقات قوية مع الحكام الجدد لساحل العاج، والعمل على إيجاد موطئ قدم لها في هذا البلد الاستراتيجي في الغرب الأفريقي. لغة المصالح ومن البديهي هنا أن لغة المصالح بين واشنطن وباريس هي ما سيلعب الدور الأهم في تحديد وجهة الأحداث في ساحل العاج، وتسمية هوية فرس الرهان، حيث يبدو الخيار الأقرب ممارسة أقصى نوع من الضغوط على جاجبو لمغادرة السلطة، مع ضمان دور سياسي للقوى التقليدية في البلاد عبر تشكيل حكومة وحدة وطنية بشكل مشروع، وإعادة توحيد البلاد، وصياغة دستور جديد، وبناء مؤسسات الدولة وفق معايير جديدة أهم أولويتها ضرورة عدم تجاهل دور دول الجوار العاجي، وموقف دول الرابطة الاقتصادية لغرب إفريقيا "الأيكوس "بقيادة نيجيريا الداعمة بقوة لطيّ صفحة جاجبو، خصوصًا أن هذه الرابطة لعبت دورًا مهمًا في توقيع اتفاق السلام بين الفرقاء العاجيين، وتحظى بنفوذ كبير ظهرت مؤشراته في دعوتها لعقد قمة لمناقشة مستقبل السلطة في هذا البلد المضطرب. صفقة خلاصة القول أن تسوية التوتر في ساحل العاج قد تأخذ وقتًا ليس بالقصير إذا سعت القوى المؤثرة إلى التوصل لحل وسط بين جاجبو ووتارا يكرر ما حدث في كينيا وزيمبابوي ويفرض تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم كافة ألوان الطيف في البلاد وإطالة أمد إبرام صفقة بين باريس وواشنطن بمباركة دول الجوار، وهو الخيار الأقرب للواقع في ظل وجود شبه إجماع على ضرورة مغادرة الرئيس المهزوم للمشهد السياسي أو اللجوء لحسم سريع للأزمة، فقد يأتي مع إعطاء هذه القوى أو بعض منها الضوء الأخضر للقوات الشمالية للزحف على العاصمة، وإبعاد جاجبو وتنصيب وتارا ، وبين الخيارين تبدو الساحة العاجية حبلى بالصراعات والمفاجآت. المصدر: الاسلام اليوم