من بين المفارقات العجيبة والطرف الغريبة التي لن تجد لها مثيلا في العالم سوى في بلادنا وينفرد بها نظامنا عن باقي النظم الحاكمة .. هي أن السياسة في مصر المحروسة لم يعد لها أي اعتبار في عملية صنع القرار !!.. فترى القرارات (الفوقية) تنزل فوق رؤوس الناس غامضة مبهمة ، من دون حيثيات منطقية مقنعة أو مسوغات سياسية واضحة .. ولا يكلف صاحب القرار نفسه في أغلب الأحوال عناء الشرح والتفسير .. وإذا تكلم - وليته ما تكلم – فيقوم بترديد عبارات مطاطة وكلمات ملتبسة تزيد من حيرة الناس ، كاشفا عن ضحالة سياسية مروعة وغشم استبدادي مقيت .. وفي نهاية الأمر لا يكون أمام الرافضين للقرار سوى الصراخ في البرية ، أو يضربوا رؤوسهم في أقرب حائط !! .. إذا أردت تفسيرا حقيقيا وتحليلا صادقا لقرارات النظام العجيبة .. فعليك أن تنحي السياسة جانبا وتلمس أسباب أخرى !! .. فقد أسقط النظام السياسة من حساباته منذ زمن بعيد .. ولم تنحدر السياسة ويهمش دورها في وقت من الأوقات كما انحدرت وهمشت في ذلك العصر .. ولم يهن السياسيون في أوطانهم وأحاطت بهم الشبهات والأخطار ، كما هانوا في الربع قرن الأخير .. حرص النظام دوما على تجميد السياسة فعليا وإقصاء السياسيين (المحترفين) من الساحة كليا ، واكتفى بتقريب عناصر موالية انحصرت مميزاتهم في افتقارهم للرصيد الوطني والخبرات السياسية فاسند إلى هذه العناصر المجهولة غير المسيّسة وزارات الدولة والمناصب الكبرى ، وهم غير مؤهلين لشغلها ولا جديرين بتوليتها .. فهبط العسكر والتكنوقراط ورجال الأعمال على الوزارات ، وتحولت الوزارة من مؤسسة سياسية حاكمة إلى مجرد منصب وظيفي رفيع ، يضمن لصاحبة التمتع بالعطايا السخية والمكافئات الباهظة وتجاوزات في تمرير الصفقات المشبوهة .. وهكذا أقصي السياسيون الحقيقيون وكل من له رؤية سياسية مستقلة عن لعب أي دور تنفيذي في إدارة مؤسسات الدولة .. وكانت محصلة هذه التوجهات بعد تجربتها لنحو ربع قرن من الزمان ، تدهور خطير في الأوضاع وانحطاط غير مسبوق في السياسات .. باتت فيه الدولة فاقدة لأي أفق سياسي ، وانعدمت الثقة كليا في نوايا النظام ، بعد أن سد بقراراته الخاطئة جميع الأبواب في وجه المطالب بالإصلاح والتغيير .. المؤكد حسب الشواهد لدينا أن قرارات النظام تصدر تبعا لنوازع نفسية متقلبة تتلاعب بمصير سلطة مطلقة ليس عليها حسيب أو رقيب ، ووفقا لمصالح واعتبارات شخصية لا تهتم سوى باستمرار حيازتها للثروة والسلطة .. فهذه هي السياسة كما تعرفها الطبقة الحاكمة في بلادنا .. فهي لم تتعلم أن السياسة هي في المقام الأول دور وطني يبتغي المصلحة العامة وليست وظيفة رسمية تهتم بمصلحة خاصة .. ولم تدرك أن المنصب السياسي مسؤولية كبرى ، لا يصح أن يشغله سوى من له رؤية سياسية ورصيد وطني وتاريخ نضالي طويل ومشاركات سياسية فاعلة ومعروفة للناس .. وهذه برأيي هي المعضلة الكبرى وسبب النكبات التي تمر بها مصر .. فالذين يحكمونها حاليا ليسو سياسيين ، ولم يمتهنوا السياسة يوما قبل اختيارهم للمناصب السياسية في ظروف قدرية بحتة لعب فيها الحظ دورا كبيرا !! .. وهكذا هبط على الحكم أفراد لا يصلحون لتلك المهمة الكبرى .. ففشلوا فشلا ذريعا وأوصلوا البلاد إلى ما نراه الآن من تخلف وهوان ، فلم يعد ينفع لهم تعليم في الكبر ، ولن يشفع لهم تدريب في الشيخوخة . [email protected]