ما يجرى فى غزة فوق طاقة البشر على الاحتمال، فلا يحتاج المرء أن يكون فلسطينياً أو عربياً لكى يهتز لبشاعة الإبادة الإسرائيلية. وقد فعلتها ليفنى الأنعم من حية، مثلما يفعل دائماً قادة إسرائيل الذين يتخذون من زيارة مصر محطة ضرورية قبل ارتكاب الجرائم الكبرى، وفاء لروح مؤسس هذه المدرسة فى السياسة الخارجية مناحيم بيجن. التقى بيجن بالرئيس السادات قبل ضرب المفاعل العراقى عام 1981، وأصبح لقاء شرم الشيخ أو القاهرة منذ ذلك الحين، تقليداً لدى قادة إسرائيل قبل العدوان على أى طرف عربى آخر، حفاظاً على خصومة كامب ديفيد. وأحد أسرار بقاء هذه الدولة العصابة حتى اليوم، أنها تتميز على كل جيرانها، بالالتزام بتقاليد سياسية ودبلوماسية، يبنى بموجبها الخلف فوق الأساس الذى وضعه السلف. يأخذون على الرئيس مبارك أنه لا يزور إسرائيل، وهذه فضيلة نحملها لرئيسنا فى قلوبنا، لولا أنهم يأتون ويتركون على قميصنا شيئاً من الدم العربى، لكى يستنفدوا جانباً من هتاف المتظاهرين ضد «تواطؤ» النظام المصرى. ومن العجيب أن يهتم خبراء الإبادة بتوجيه مظاهراتنا بقدر اهتمامهم بتوجيه طائراتهم.. مظاهرات لا تضرهم فى شىء؛ ولكنهم يحرصون على توسيع الخرق فى الصف العربى، ليس فقط على المستوى الرسمى، بل على المستوى الشعبى، وهذه أيضاً واحدة من تقاليد الاستعمار التى تحرص إسرائيل عليها: يد تقتل، ويد تزرع الشقاق. هكذا جاءت ليفنى، ووضعت أصابعها حيث أرادت. أجهضت الاحتفالات العربية بحذاء منتظر الزيدى، حيث جعلت من تشابك أصابعها بأصابع وزيرنا أبو الغيط مختتماً للعام. صورة الأيدى المتشابكة بين وزيرنا والوزيرة الإسرائيلية، استرعت الانتباه بأكثر مما فعلت صور أشلاء البشر فى شوارع غزة، مثلما استطاعت فردتا حذاء الزيدى فى وجه بوش صرف الأنظار عن مستقبل العراق فى ظل الاتفاقية الأمنية، واعتبارها القصاص الملائم لدماء مليون شهيد عراقى سقطوا منذ قرر السفاح البليد غزو العراق! وفى المناسبات الجلل كمناسبة مذبحة غزة المروعة، لا يمكن لأحد أن يسأل الجماهير العربية الجريحة: لماذا ترون القشة فى عين النظام المصرى بينما لا ترون الخشبة فى عين حماس؟! ليس هذا دفاعاً عن نظامنا، بل إننى أرى أن منظومة التبديد التى تعمل على أشدها لإهدار رأس المال المادى فى الداخل، هى نفسها التى تحكم وتبدد رأس مالنا الرمزى فى العالم بدبلوماسية عجيبة، تمنح موافقاتها وممانعاتها مجاناً. ولكن الموقف خطر، ينذر بتصفية القضية الفلسطينية، وينبغى أن يكون الحديث واضحاً بعيداً عن نفاق الجماهير الغاضبة. وبافتراض حسن النية لدى حماس؛ فلابد أن تعرف الفرق بين المقاومة والانتحار. حق المقاومة المسلحة للاحتلال مشروع؛ بل واجب، لكنه يختلف بالتأكيد عن الانتحار، وهذا الأخير، بعيداً عن حرمته، ترف لا ينبغى أن يقدم عليه أصحاب القضايا الكبرى. وبداية شروع حماس فى الانتحار كان الانفصال بغزة؛ ففى وجود حكومة عباس كان بوسع الفلسطينيين المناورة (عباس يستفيد من عمليات حماس فى طلب ثمن سياسى لإسكاتها، وحماس تستفيد من غطاء السلطة وإدارتها لحياة المواطنين العزل) وهذه اللعبة أجادها المخضرم عرفات مع فصائل المقاومة ببراعة. انفصلت حماس بغزة، وسوف تقاوم حتى الموت، لكن أى مقاومة، وهل حسبت قوتها فى مواجهة قوة إسرائيل أم انزلقت إلى القياس الخاطىء على حزب الله؟! الموقف فى الحالتين مختلف؛ ابتداء من طبيعة الأرض الجبلية فى الجنوب اللبنانى، وطبيعة الأرض المنبسطة فى غزة، ووجود خطوط إمداد وعمق جغرافى غير معاد فى حالة حزب الله، فى مقابل التفاف العدو من ثلاث جهات، والرابعة الجدار المصرى فى حالة حماس. هذه الاختلافات أثمرت الاختلاف فى نتائج المواجهة فى الحالتين. صواريخ القسام لم تنزل بالجنوب الإسرائيلى ما أنزلته كاتيوشا حزب الله بشمالها، ولكنها بددت الرصيد المعنوى للقضية الفلسطينية فى أذهان الرعاة الغربيين. ليذهب الرعاة الغربيون إلى الجحيم لأنهم لم يرعوا شيئاً، وأولى الأشياء بالرعاية حرمة الدم الإنسانى، ولكن على الأقل كان على حماس أن تجد طريقة أخرى للكفاح، وأن تتعلم التواضع من السفاحين الإسرائيليين، وأن تعرف كيف تستفيد من حقيقة الضعف. المفارقة الغريبة أن قادة إسرائيل الدمويين هم الذين يدعون الضعف، ويتحدثون عن الأخطار التى تتعرض لها دولتهم، بينما المحاصرون فى قفص غزة، ومعهم المتظاهرون والخطباء، يتحدثون عن النصر أو الشهادة. وحتى الآن ليس هناك سوى الشهادة، والمجزرة التى بدأتها إسرائيل على مرأى من العالم، ليست انتقاماً من حماس فقط، ففى عنفها يختفى الرد على حزب الله أيضاً، وكأنها تريد تحقيق ما لم تتمكن منه فى الجبهة الشمالية، وهو سحق فكرة المقاومة، تحقيقاً لأسطورة النصر الكامل التوراتية، ولم يكتف الإسرائيليون هذه المرة بالإيغال فى القتل، بل زايدوا على إلههم بالقتل فى السبت الحرام. ومن غير المنتظر أن تتحرك الحياة قريباً فى جثة النظام العربى الرسمى الذى يغرى الإسرائيليين بالتقدم فى دمائنا، ولكن هذه الإبادة النازية يمكن أن تكون فرصة لإفاقة الشعوب العربية التى تهب عند كل مذبحة، وتنام طوال العام راضية بالأمر الواقع. هذه المذبحة تتطلب منا إعادة طرح الأسئلة الأساسية، حول طبيعة الصراع وطريقة إدارته مع دولة تؤسس لاستحالة بقائها، لأنها باختصار لا تعرف إلا المطلقات، وغير مستعدة لنسبية التعايش مع الآخرين. وهذه هى القضية التى تتجاوز أصابع ليفنى والمذبحة.