الفكر التقليدي لا يصلح في الحالات الاستثنائية أو الحرجة، والخطاب التقليدي لا يصلح في حالات الاستقطاب الحاد، ومصر في حالة استثنائية حرجة، وفي حالة استقطاب حاد. مصر في أزمة حقيقية، لا كاشف لها من دون الله، والصراع محتدم، والانقسام رأسي. والأزمة ليست في رئيس منتخب تم عزله وسجنه، وتم اعتقال أنصاره وأفراد جماعته، وتلفيق التهم جزافا له ولهم. والأزمة ليست في دستور كُتب على أعين العسكر، وأتباعهم من تيارات فكرية لا جذور لها في المجتمع، ولا قواعد شعبية، ليشرعن أوضاع استثنائية غاية في المأساة. والأزمة ليست في دحر تيار كامل، وخلعه من سدة الحكم، وإيداع أنصاره غياهب السجون، وشن الحملات الإعلامية العدائية لشيطنتهم، وشيطنة كل من يدافع عن حقهم في التواجد والحركة، ووصمه كذبا وزورًا بالطابور الخامس، واستباحة كل الحرمات تحت دعاوى محاربة إرهاب مزعوم. لو كان السيسي فعل كل ذلك وأكثر وحقق إنجازا ملموسا على الأرض لما سأل الناس على الرئيس المنتخب، ولما سأل الناس عن الجماعة المسجونة، ولا أين هم في سجون مصر، ولا سأل الناس خلفيات تلك الحملة الإعلامية المسعورة والمبرمجة، من كل صاحب هوى ومصلحة. لو كان السيسي فعل كل ذلك وأكثر وحقق إنجازا ملموسًا على الأرض لما سأل الناس عن حقيقة تلك الحملة الشعواء على مواطنين أبرياء، ولا سألوا عن مدى قانونيتها من عدمه. المشكلة أن السيسي فعل كل ذلك ولم يحقق للبلد إنجازا ملموسا على أي صعيد. المشكلة أن السيسي فعل كل ذلك وفشل فشلا ذريعا في إرساء دعائم حكم يحترم حتى الحدود الدنيا من حقوق الإنسان، أو يحترم إرادة الناس بل إفتئت عليها. المشكلة أن السيسي فعل كل ذلك وقسّم المجتمع والدولة قسمين في مكارثية غبية، وخطاب إعلامي تحريضي أرعن. المشكلة أن السيسي فعل كل ذلك، وأضاع مكانة مصر الخارجية على المستويين: الإقليمي والدولي. المشكلة أن السيسي فعل كل ذلك ولم ينجح في حل أي من معضلات مصر الكبرى، لا سياسة، ولا اقتصاد، ولا تعليم، ولا صحة، ولا أمن. المشكلة أن السيسي فعل كل ذلك ولم يحقق شيئا على أي صعيد. المشكلة الحقيقية وجوهر الأزمة في مصر: أن سُلَّم نظام السيسي مسنود على الحائط الخطأ: يقول ستيفن كوفي صاحب كتاب العادات السبع: "إننا ظللنا نحفز الناس على الصعود إلى أعلم السلم الاجتماعي والاقتصادي، ثم إذا صعدوا أعلى السلم، اكتشفوا أن السُلَّم مسنود على الحائط الخطأ". بعد أن يكون ضاعت أعمال، وأعمار، وأموال، وجهود ومستقبل دول، ومصير شعوب. مشكلة السيسي أنه اشتغل على الساعة، ولم يول البوصلة اهتماما يُذكر. ضبط ساعته: كيف يعزل رئيسًا منتخبًا. كيف يحيد حركة أفراد جماعته وحزبه في الشوارع والميادين. كيف يرسم شبكات التحالفات، وكيف يجمّع شبكات المصالح. كيف يرتب داخليا: مع رموز ومرجعيات دينية وسياسية وإعلامية. كيف يضفي ولو قليلا من شرعية على 3 يوليو: شيخ الأزهر، رأس الكنيسة القبطية، شخصيات لها وزن واعتبار دولي: البرادعي. شخصيات لها مسميات وإن كانت بلا حقائق على الأرض: رؤساء أحزاب وإعلاميين ندامة. كيف ينسق خارجيًا مع دول تمول عملية اغتصاب السلطة، وتؤيد وتناصر وتصنع غطاءً دوليا. نجح السيسي في ضبط عقارب ساعته، وأنطلق ... ولكن إلى المجهول. لم ينتبه إلى بوصلة الانطلاق، ولم يعرها اهتماما. فانطلق في سماء مفتوحة، لكن لا يعرف إلى أين. صحيح أنه ملء خزان طائرته بالوقود، لكن هو لا يعرف المسافة التي سيقطعها، لأنه أساسًا لا يعرف إلى أين هو ذاهب. لم يعرف كم سيقطع من مسافات حتى يصل إلى مبتغاه، وما إذا كان وقود طائرته سينفد أم سيوصله إلى وجهته، وهو لم يعرف الوجهة سلفا، ومن ثم لم يكن يعرف المسافة ولا الوقود اللازم لها. هو ظن أن امتلاء خزان الطائرة كاف، ونسى أن لكل خزان سعة ومقدار. وتلك هي مشكلة العسكريين عندما يدخلون دواليب إدارة الدول، وأجهزتها البيروقراطية أو حتى المشاريع الاقتصادية أو الاجتماعية: كل حركة تدمير. وكل قرار خراب. وكل ميزان اختلال. وكل شبكات المجتمع تتمزق. وكل تحالف ينهار. ولكل أجل كتاب. مشكلة السيسي أنه فكر في عملية اغتصاب سلطة منتخبة في دولة لا زالت في حالة ثورة، كما لو كان يفكر في عملية عسكرية مخابراتية صغيرة، وإن كانت عسكريته أبرز نقاط قوته، فهي أيضا مكمن ضعفه، ومنها أُتي. إن الهواية مع كثير من الإخلاص (نظنه كذلك) لم تنج مرسي ولا عشيرته. فهل الهواية مع كثير من النفاق تنجي السيسي وعشيرته. ليست المعركة أن السيسي يترشح للرئاسة أم لا، السيسي ضمن -إذا ضمن الحياة- ثمان سنوات عجاف، هو المتحكم الرئيس في مجمل العملية السياسية في بر مصر. وكما كنا نراهن في السنوات الأخيرة لحكم مبارك على تدخل ملك الموت وسرعة حركته، فها نحن ندخل نفس الرهان مرة أخرى، كأننا لم نقم بثورة، وكأننا لم نثر على رئيسين، وكأننا لم ننزل الشوارع ولم نعتصم في الميادين. ها نحن عدنا كما بدأنا أول مرة: نصارع من أجل الحدود الدنيا لحقوق الإنسان. ونصارع لإرساء دولة عدل، لا يُظلَم فيها أحد. ونصارع من أجل الحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية. ويخطئ من يظن أن الشعب المصري سيستسلم للطوفان القادم، ويخطئ من يظن أن الشعب المصري سيخضع للطغيان. الشعب المصري كيان حي، يتفاعل ويتململ وينكر ويرفض الاستبداد سواء تزيا بزي الدين أو بزي العسكر، أو حتى بزي القضاء. وفي حالات الاضطراب لا تكفي دائرة واحدة للحركة، ولا يكفي مستوى واحد للخطاب. ومصر في حالة اضطراب نموذجية، وفي حالة أزمة حادة حقيقية، لا تكفي فيها الحلول التقليدية ولا الخطابات التقليدية في رفض الاستبداد والعسكرة، ومقاومة الطغيان: نريد أفكارًا مبتكرة. ونريد حلولا مبدعة. ونريد أشكالا من النضال لم تطرأ على بال بشر، ولم تدبر بخلد مستبد. ونريد أساليبًا في مقاومة الاستبداد لم تخطر بعقل ظالم. ونريد تنوعا في دوائر حركة مقاومة الثورة المضادة التي التفت على ثورة يناير وكبلتها: سجنا واعتقالا وتشريدا، ونزولا بسقف الطموحات والأحلام. ما كان أحد يظن أن مبارك سيطاح به، وما كان أحد يظن أن دولة أحمد عز ستنهار، وما كان أحد يظن أن جمال مبارك لن يكون رئيسًا، وقد نادوه بالرئيس (كان رئيسا بالقوة وإن لم يكن رئيسًا بالفعل). كذلك، إن من يرتب للسيسي ثمان سنوات لم يقرأ ديوان الشعب المصري، ولم يعرف طرق تشغيله، ولا سيكولوجيته المركبة التي تثور في وقت يظن الناس كل الناس أنه استسلم، أو ركن للظالم، وهو (أي الشعب) مشغول بتعميق الحفرة التي سيدفن فيها الحاكم المستبد.