أبدت الحكومة المصرية قلقا شديدا أول أمس من عدة مقالات نشرتها صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية عن الشؤون الداخلية في مصر من زاوية نقدية ، وكلفت الخارجية المصرية سفيرها في واشنطن بكتابة احتجاج عنيف إلى المدير التنفيذي للصحيفة يشكو فيه مما اعتبره تحاملا من الصحيفة على مصر وتساءل بالبلدي "حاطينا في دماغكم ليه" ، هذا على الرغم من أن الصحيفة نشرت الرأي الآخر وهو الغزل غير العفيف في النظام السياسي المصري الذي قاله وزير المالية يوسف بطرس غالي في مقال نشرته نفس الصحيفة قبل أيام . السفير المصري "سامح شكري" قال في رسالته أنه لم يفكر في اتخاذ الطريق الطبيعي للتعليق على ما لا يعجبه في الصحيفة بكتابة رسالة تنشر في مساحة القراء كالمعتاد ، وإنما رأى أن "الوجع" يستحق أن يبعث بشكواه إلى إدارة تحرير الصحيفة مباشرة في محاولة لإسكات الأصوات والآراء الناقدة للأحوال في مصر وخاصة المسار الديمقراطي الكسيح فيها والانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان ، ولاحظت أن رسالة السفير كما نشرتها الزميلة الأهرام أول أمس كانت حريصة على تذكير الصحيفة بأن مصر حليف استراتيجي للولايات المتحدة فلا يصح تجريحها بهذا الشكل ، وهو أسلوب "عالمثالثي" بدائي في فهم طبيعة العلاقة بين الصحافة والإدارات السياسية في مجتمع مثل المجتمع الأمريكي ، وبشكل عام كشفت رسالة السفير المصري عن آلام مبرحة عانت منها القيادة السياسية في مصر جراء هذه المقالات الصحفية المنشورة في الواشنطن بوست وأن إحساسا بالخطر دفع الخارجية إلى التحرك السريع من أجل وقف النقد وربما استئجار مساحات في مناطق أخرى للرد داخل أمريكا بطريقة أخرى . ما نشرته الواشنطن بوست في مقالاتها وافتتاحياتها والتي نشرت المصريون ترجمة لها الفترة الماضية لا يمثل شيئا استثنائيا في النقد السياسي الذي يواجه الحكومة المصرية في الصحافة المصرية ذاتها ، بل إن ما نشرته الواشنطن بوست يعتبر مخففا إلى حد ما بالنسبة لما تنشره الصحف المصرية في الداخل من انتهاكات ، وهو ما يجعلنا في حال من الاستغراب والدهشة من هذه المفارقة ، فنحن نكتب ويكتب غيرنا في مصر وكأننا نصرخ في واد ، وننادي في صحراء قاحلة لا بشر فيها يسمعون أو يعتبرون ، وتلال من قضايا الفساد السياسي والاقتصادي وغيره التي تعرض لها الصحافة المصرية لا تأبه لها المنظومة الحاكمة في مصر وكأنك تخاطب بهذا الكلام نظاما آخر في دولة أخرى ، في حين لم يتحمل نفس النظام عدة مقالات منزوعة الدسم في صحيفة أمريكية كبيرة ، وبسرعة أبدى غضبه وأكد أنه قرأ وفهم وقلق وبدأ في الاستجابة للخطر ، أليست تلك مفارقة تستدعي التأمل . لا أتصور أن المسألة تقتصر على أسباب تعود إلى حدود المصداقية لدى الرأي العام ، لأن الصحافة الأمريكية خدشت فيها جوانب في السنوات الماضية نزعت عنها الكثير من الهيبة والقدسية التي كانت لها في السابق كمرجع للحقيقة لا يقبل الشك ، كما أن الرأي العام المصري يتعامل باحترام وإيجابية مع بعض الجهود الصحفية المصرية في الداخل التي يستشعر منها الصدق والاستقلالية ، ولذلك أستبعد أن تكون هذه المسألة وحدها هي التي صنعت الفارق ، ولكن الذي صنع الفارق في تقديري هو احتقار المنظومة السياسية في مصر للرأي العام المصري وإرادة المجتمع والشعب في الداخل ، في حين تتعامل باحترام وهيبة وحذر كبير مع الرأي العام العالمي والرأي العام الأمريكي بشكل خاص ، والرأي العام النخبوي المؤثر في صناعة القرار الأمريكي بشكل أكثر خصوصية ، لا تشعر السلطة في مصر بأي قلق جدي من "الفعل" السياسي في الداخل وقدرة الشعب المصري على التأثير وتوجيه القرار أو تغيير مسارات سياسية ، في حين تتعامل مع الموقف الأمريكي "الخارجي" والرأي العام الأمريكي باعتباره فاعلا وقادرا على تغيير مسارات في بلادنا وتوجيه قرارات وصناعة قرارات أيضا ، وهذا هو الفارق الذي يفسر هذا الاستخفاف بما ينشر في الصحافة داخليا ولو كان عبر خمسمائة صحيفة كما قال بطرس غالي في مقاله الذي نشرته الواشنطن بوست ذاتها ، وبين الخوف والهلع مما ينشر في أمريكا ولو كان في صحيفة واحدة فقط مهما كان حضورها وانتشارها . أذكر أن الزميل الكبير سلامة أحمد سلامة كتب قبل أسبوع معلقا على نتائج انتخابات الكونجرس الأمريكي التي جرت مؤخرا وقال أنها أهم وأكثر تأثيرا على مجريات الأحداث في مصر والمنطقة العربية من نتائج انتخابات مجلس الشعب نفسه ، في إشارة منه إلى عظم تأثير الخارج على السياسات المحلية أكثر من تأثير الداخل ، .. أتصور أن كلامه صحيح ، ورسالة السفير "سامح شكري" أحدث برهان على ذلك . [email protected]