كثيرا ما تناولت الأدبيات السياسية الطبيعة الوصفية التي تربط ما بين النظام الحاكم وبقية أفراد الشعب المحكومين، هو ما يعرف ب"العقد الاجتماعي". ومن خلال هذا العقد بغض النظر عن الجدلية الفلسفية المحيطة به والمبسوطة في مظانها فانه يعطي قدرا من التسليم أو التفويض للحاكم بإدارة شئون البلاد شريطة أن يحقق ذاك الحكم ما يبتغيه الشعب ويريده. فهي علاقة بطبيعتها تبادلية، فالشعب يسلم قيادته لمن يريد مشترطا عليه أن يرمى من وراء حكمه مصلحتهم ومصلحة بلدهم. وقد يطرأ على العقد ما يفسده، فيما إذا أقدم احد الطرفين على نفض يده منه ونقضه، فالشعب قد يسحب تفويضه لأنه الصاحب الرئيس له والنظام قد يخرج عن مقتضى وظيفته المنوطة به فيفقد بذلك أهليته وشرعيته المستمدة من العقد وشروطه. وقد تحتاج الأمة إلى تغيير هيكلية العقد وطبيعته، لاسيما في وقت الأزمات العاصفة التي تمر بها أو في المراحل المفصلية في حياتها. فهي قد تكون مدفوعة إلى البحث عن مضامين جديدة لهذا العقد بعد سلسلة من الأزمات والعواصف التي بها تضطرب السفينة، أو قد تكون وصلت مرحلة من النضج السياسي والفكري الذي يحدوها إلى البحث عن صيغة أفضل وعقد أمكن يحقق لها آمالها وتطلعاتها. والمجتمع المصري واحد من هذه المجتمعات التي قام فيها العقد الاجتماعي منذ حقبة تاريخية طويلة على تقديم الأمن الاقتصادي والمادي للشعب مقابل تخليه عن دور سياسي فعال، أو بمعنى أدق يغسل يديه وقدميه من السياسية وأهلها. ونذر الخطر المحدقة بالمجتمع في حقيقتها تدعو إلى البحث عن صياغة تعاقدية جديدة تفوت على المتربصين داخليا وخارجيا مأربهم ونواياهم الخبيثة بهذا البلد وأبنائه. وقبل التعرض لهذه الصيغة الجديدة ومضامين العقد الاجتماعي الذي نراه الأصوب في هذه الحقبة المتأزمة والمحتقنة في تاريخ البلاد نعرج على شريحة من التخوفات الداخلية والخارجية. التخوفات الداخلية فمن خلال الرصد الواقعي نجد أن المجتمع بات قوسين أو أدنى من الانقسام على نفسه إن لم ينقسم بالفعل إلى طوائف تبحث كل منها عن مصالحها الذاتية وأجندتها التي هي ظاهرة معلومة تارة وخفية في أحيانا كثيرة. هذه ال "عدوى الطائفية" التي لوثت بعض الدول العربية نراها آخذه في الازدياد والاطراد في المجتمع المصري، ونشير هنا إلى توجهين مختلفين من تلك الطائفية: أولاً الطائفية الدينية والمذهبية ونقصد بها ازدياد نبرة الاعتداد بالمذهب أو الديانة في مواجهة الدولة، بحيث تطالب تلك المنابر ليس بإصلاح سياسي أو اقتصادي يعم المجتمع بكافة أفراده، ولكنها تتمحور حول مطالب فئة معينة أو فصيل معين يشعر بالغبن والتجاهل من قِبل مؤسسات الدولة. ونشير هنا إلى حادثتين لهما دلالة واضحة في هذا المنحى: 1 طالب المهندس "عدلي أبادير يوسف" كبير أقباط المهجر فرض المظلة الدولية لحماية الأقباط في مصر من "الاضطهاد"، الذين قال إن عددهم يبلغ 12 مليون[ بحسب الإحصائيات الرسمية فان عدد الأقباط في مصر 10% من إجمالي عدد السكان]، ويتم تحويلهم إلى "دارفور المصرية" منذ 53 سنة. وعلى اثر صدور قرار من احدي اللجان التابعة للأمم المتحدة يتيح لأول مرة النظر في قضايا لها علاقة باضطهادهم قام أحد الأقباط في ضاحية مصر الجديدة التي تعيش فيها نسبة كبيرة من أثرياء الأقباط بتوزيع الحلوى، معتبرا الحكم يمثل فرصة لجميع المضطهدين للجوء للأمم المتحدة لحمايتهم من الأسلوب القمعي للحكومة( القدس العربي 9/3/2006). واعترف أحد المحامين الأقباط أن الحكم يعد مفاجأة سارة لأنه سوف يتيح للأقباط أن يجدوا حلا لمشاكلهم التاريخية!! 2 كشف أحد زعماء الطائفة الشيعية في مصر عن عزمه التقدم بطلب لتشكيل أول حزب سياسي شيعي في مصر يطلق عليه "شيعة مصر". وقال "محمد الدريني" رئيس المجلس الأعلى لرعاية آل البيت ووكيل مؤسسي حزب "شيعة مصر": إنه سيتقدم بأوراق الحزب إلى لجنة شئون الأحزاب المصرية عقب الانتهاء من صياغة البرنامج وبلورة أفكار الحزب في شكلها النهائي. وشدد الدريني على أن حالة "الحراك السياسي" التي تشهدها مصر الآن دفعته للتفكير في هذا الأمر الذي ظل يراود شيعة مصر طوال السنوات الماضية لإعلان حزب شرعي يعبّر عن مليون ونصف مليون شيعي في مصر، على حد تقديره [حوالي 700 ألف وفق إحصاءات غير رسمية]. ثانيًا الطائفية العرقية والجغرافية ونقصد بها أن تشعر طائفة أو قبيلة أو تجمع ما بالغبن من ممارسات الدولة تجاهها سواء كان ذلك نتيجة بعدها الجغرافي عن السلطة المركزية فيقل حظها وقسمها من التنمية، أو تُمارس ضدها سلوكيات قمعية تذيب هويتها وانتمائها وتجعلها زاهدة في البقاء في أطر الدولة. وهنا نشير إلى نقطتين أساسيتين: 1 أن حظوظ أهل الجنوب في مصر وغيرها من الأماكن البعيدة والنائية نسبيًا عن العاصمة من التنمية أقل بكثير من حظ الشمال أو الأماكن الحضرية، وهو ما يجعل التجربة السودانية حاضرة بقوة ذهنيًا على الأقل عند مراجعة المشهد المصري. ومما يزيد من هذه المخاوف أن نسبة كبيرة من الأقباط تستوطن صعيد مصر، كما أن أهل النوبة الذين ما زالوا يحتفظون بعاداتهم ولكناتهم وتميّزهم يقطنون كذلك في الجنوب. أي أن المخاوف من النزعة العرقية والطائفية مزدوجة، فقد يذهب في منحى عرقي وقد يأخذ بعدًا دينيًا. ويحسن في هذا المقام أن نُعرج على آخر تقريرين عن التنمية البشرية في مصر في عامي 2003 و2004 ليوضحا ما ذهبنا إليه: جاء في تقرير التنمية البشرية لمصر عام 2003: أن تصنيف شرائح التنمية البشرية داخل مصر يبين إلى أي مدى يتفق التباين في مستويات التنمية مع الانقسام بين الشمال والجنوب في البلاد. فقد ظهرت مستويات منخفضة للتنمية البشرية في معظم مناطق جنوب مصر، بينما تنتمي المراكز السكانية الرئيسية في الشمال في القاهرةوالإسكندرية وبورسعيد لشريحة تنمية بشرية مرتفعة. وأشار التقرير إلى أن معدلات التنمية في محافظات الشمال في مصر تتراوح بين من متوسط ومرتفع. وقال إنه يبدو أن هناك صلة بين الحضر والتنمية؛ إذ تقع معظم المحافظات الريفية في شريحة التنمية البشرية الضعيفة، بينما تنتمي أكثر المحافظات تحضرًا لمستويات من متوسطة إلى مرتفعة. وقال التقرير إن معدل الأمية كأحد المؤشرات يبلغ نحو 50 في المائة في العديد من المناطق الجنوبية. وخلص التقرير إلى أن ثمة تباينًا في معدلات التنمية بين شمال مصر الأكثر غنى وتحضرًا، وأرفع تعليمًا، وبين الجنوب الأفقر حيث يقل مستوى التعليم ويسوده الطابع الريفي. ونصّ تقرير التنمية البشرية لمصر عام 2004: أنه على الرغم من التطور المضطرد في مؤشر التنمية على المستوى القومي، إلا أن المعدلات تشير إلي اختلاف اتجاهات التنمية بين محافظات الدلتا ومحافظات الصعيد. وأوضح التقرير أن المحافظات الحضرية الأربع [ القاهرة، بور سعيد، الإسكندرية، السويس] تقع على قائمة المحافظات التي حققت أفضل أداء، هذا بينما شهدت محافظات الصعيد أدنى مستوى للتنمية البشرية. وأوضح التقرير أن مستوى الحرمان البشرى في جنوب مصر و بالذات فيما يخص مياه الشرب النقية، والصرف الصحي، و التعليم لا يتناسب مع حجم السكان واحتياجاتهم. 2 الأحداث التي تبعت تفجيرات طابا في أكتوبر من العام الماضي من عقاب شبه جماعي لأهل سيناء والبدو استمر فترة غير قليلة من الزمن أعقبها تفجيرات شرم الشيخ، وبحسب رواية الشرطة المصرية فإن جميع المتهمين في الحادثة الأخيرة من أهالي سيناء، وليس لهم أية ارتباطات بتنظيمات في الخارج. وقد ألقى رئيس الوزراء المصري د."أحمد نظيف" بالتبعة والمسؤولية على جهات الأمن في تفجيرات شرم الشيخ الأخيرة؛ نتيجة تعاملها المتعسف مع الأهالي والمواطنين. وهذا المشهد يعطي دلالة واضحة على أن الإجراءات القمعية التي تأخذ صورة عقاب جماعي يمكن أن تخندق ذلك المجتمع وتدفعه دفعًا لاسيما وهو يقع في منطقة نائية قريبة مع العدو الإسرائيلي لأن يكون في مواجهة الدولة، وأن تتولد داخل النفوس مرارة قد تدفعها الأيام أو تتلقفها أيدي موتورة للعبث بتماسك المجتمع. التخوفات الخارجية أما عن المؤامرات الخارجية فالحديث عنها طويل، ومصر تعد "الجائزة الكبرى" التي يسعى أصحاب المؤامرات إلى تفتيتها إلى دويلات متناحرة متحاربة كما الحال في الصومال والعراق وكما كان الحال منذ حقبة زمنية يسيرة في لبنان. فثمة مشروع حول مستقبل "إسرائيل" حتى العام 2020 أعدّه نحو 250 من الباحثين والأكاديميين والعسكريين والاقتصاديين الصهاينة، ويتمحور حول إيجاد فراغ أمني حول "إسرائيل" يحفظ لها أمنها، وهو فراغ يتأتى عن طريق إقامة كيانات طائفية تتناحر فيما بينها فتربح "إسرائيل" وتأمن داخل حدودها. وأحد الباحثين الصهاينة وهو جونثان رندل في كتابه "أمراء الحرب المسيحيون والمغامرة الإسرائيلية في لبنان" لخص الرؤية اليهودية لتركيبة المنطقة العربية، وإستراتيجية التعامل معها بقوله "الشرق الأوسط ليس سوى موزاييك شعوب وثقافات وأنظمة تحكم شعوباً ومجموعات غير راضية، إذا استطاعت إسرائيل الاتصال بهذه المجموعات كافة، فإنها ستتمكن من تفتيت العالم الإسلامي". وقد يزداد الأمر وضوحًا بالتعرض للكتاب الذي أصدره "مركز ديّان لأبحاث الشرق الأوسط وإفريقيا" التابع لجامعة تل أبيب حول "إسرائيل وحركة تحرير السودان"، كتبه ضابط الموساد السابق العميد المتقاعد موشى فرجي، ونقل مقتطفات منه الصحفي المصري "فهمي هويدي" في مقال له بجريدة الأهرام بتاريخ 8/6/2004. سرد المؤلف في الكتاب مجموعة من الحقائق التي توضّح أن الأصابع اليهودية ما عبثت بأفريقيا لاسيما السودان إلا من أجل أن تضع حذاءها على العتبة الجنوبية لمصر فتثير فيها الفتن والقلاقل. وأشار المؤلف إلى أن هذا المُخطط بدأ تنفيذه في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، وأن مهندس العملية كلها "أروي لوبراني"، وهو مستشار "ابن جوريون" للشؤون العربية وهو الذي قال بوضوح: لا بد من رصد وملاحظة كل ما يجري في السودان، ذلك القطر الذي يشكل عمقًا استراتيجيًا لمصر، بالإضافة إلى سواحله المترامية على البحر الأحمر، وهو ما يوفر للسودان موقعًا استراتيجيًا متميزًا؛ لذلك فمن الضروري العمل على إيجاد ركائز إما حول السودان أو في داخله؛ ولأجل ذلك فإن دعم حركات التمرد والانفصال يغدو مهمًا لأمن "إسرائيل". لقد تبنت "إسرائيل" في سبيل ذلك استراتيجية "شد الأطراف ثم بترها"، على حد تعبير الكاتب، بمعنى مد الجسور مع الأقليات وجذبها خارج النطاق الوطني، ثم تشجيعها على الانفصال، لإضعاف العالم العربي وتفتيته، وتهديد مصالحه في الوقت ذاته. [email protected]