لا تكاد تمرّ مناقشة بين ليبرالي وإسلامي إلا وتجد تُّهمة التكفير جاهزة للإطلاق فوراً على الإسلاميّ؛ وهي دائماً ما توضع في سياق منفِّر؛ على غرار: "أنتم تكفّرون من يعيشون معكم في نفس البلد، ثم تزعمون أنكم تحملون الخير لهم" "هؤلاء التكفيريون هم النازيّون الجدد.. فهم يرفعون شعار الإسلام لتكفير جميع من يخالفهم" "هؤلاء لا همّ لهم سوى تكفير الناس، ثم قتلهم، فالتكفير متلازم مع التفجير" المناقشة (1) لا شكّ أن إطلاق لفظ الكفر على المسلمين من الأمور الخطيرة جدا.. ويكفي للرد على من يفعل ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّمَا رَجُلٍ قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا) [متفق عليه]، فدلّ ذلك على أنّ من يكفّر مسلماً؛ فإنما يخاطر بدينه نفسه. (2) المأساة الحقيقية هي أنه حينما تتناقش مع علماني أو ليبرالي.. تجد أن المشكلة الكبرى لديه ليست في تكفير من ثبت إسلامه وإيمانه؛ وإنما مشكلته في مجرد إطلاق صفة الكفر على أي إنسان مهما كان معتقده ودينه، وكأنه ما قرأ آية واحدة من كتاب الله الذي ورد فيه ذكر كلمة الكفر بلفظه ومشتقاته اللغوية في مئات المواضع، مقرونة بلفظ الإيمان أو مستقلة عنه، بل إن القرآن الكريم مداره حول هذين اللفظين (الإيمان والكفر) وما يترتّب عليهما من السعادة والشقاء الأبدي في الحياة الآخرة.. في الجنة أو النار. (3) إنكار الكفر، تحريف صريح للقرآن الكريم، الذي قسّم الله عز وجل فيه خلقه بصريح العبارة إلى قسمين لا ثالث لهما: ، فقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}. ومن خلال تتبّع آيات القرآن الكريم، نجد أن القرآن الكريم يقسّم الكفّار إلى قسمين: 1- الكافر الأصلي: وهو كل من لم يدخل في دين الله، وكذب رسوله، ودليل ذلك: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (البينة:6). 2- المرتد: وهو من ثبت له حكم الإسلام، ثم نقض إسلامه بكفر، ومن أدلة ذلك: قول الله: {...وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وقوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} (4) أشهر الفرق التي ضلّت في باب الكفر هما فرقتان: 1- الخوارج: وهم الذين كانوا يقولون بتكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار، وهي فرقة ضالّة، خطرها عظيم على الإسلام والمسلمين، ولذلك تصدّى لها علماء المسلمين قديماً وحديثاً. 2- المرجئة: وهم على النقيض من الخوارج، إذ يخرجون العمل من الإيمان، ويحصرون الكفر في الباطن من الاعتقاد أو التكذيب أو الاستحلال. فسب لله ورسوله والتطاول على كتابه الكريم، أو السجود لغير الله.. كل ذلك عندهم لا يكفّر المسلم طالما أنه لم يستحل ولم يعتقد. (5) خلاصة رؤية التيارات الإسلامية المعاصرة في هذه القضية الخطيرة، أنها تعتقد في مسألة الكفر مثل اعتقاد الصحابة رضوان الله عليهم، فهم يثبتونه كما أثبته الله؛ لكنهم لا يُطلقونه على عموم المسلمين (ولا يُمكن أن تُنسب أفكار بعض الفرق الضالة كجماعة التكفير والهجرة وجماعة التوقف والتبين إلى مجموع الإسلاميين) وهم ليسوا منشغلين بتكفير الناس كما يروّج كارهيهم؛ وإنما يلتزمون بمنهج العلماء الذين يفرّقون دائماً بين تكفير المطلق وتكفير المعيّن.. فالتكفير المطلق: هو الحكم بالكفر على القول أو الفعل أو الاعتقاد. أما تكفير المعين: فهو الحكم على إنسان بعينه بالكفر. فليس كل من ارتكب فعلاً كفرياً، يكفر به، فقد يكون جاهلاً أو مكرها أو غير ذلك.. ومعلوم أن ثبوت حكم الكفر على بعض البشر لا يمنع معاملتهم بالإحسان والبرّ، طالما أنهم غير محاربين لنا، ودليل ذلك، قول الله: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (6) وعلى هذا، فإن اتّهام الإسلاميين بالتكفير لابد أن يكون فيه تفصيل، فإذا كانوا يقصدون تكفير من كفّره الله، فهذا ليس اتّهام، بل هو شرط الإيمان بكتاب الله ورسوله، كيلا يقع المسلم في تكذيب الوحي، وإذا كانوا يقصدون تكفير عموم المسلمين، فهذا غير صحيح، وإنما هو مذهب فئات ضالّة نسبت نفسها زوراً وبُهتاناً للتيارات الإسلامية الوسطية.