كان الخلاف الذي اندلع بسبب الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم على أشده صباح يوم الأحد، عندما اخترقت رصاصة قلب القديس "أندريا سانتورو"، والتي على إثرها لقي الكاهن البالغ من العمر 61 عامًا مصرعه في الحال. لقد كان الكاهن سريع الاستثارة بوجه خاص في الجدال الدائر بين أتباع الديانتين الذين يتصايحون فيما بينهم. والآن وبعد مرور شهرين على تلك الحادثة، لا يزال الكثير من الناس مقتنعين بهذا التفسير حتى اليوم. فطبقًا لما رواه الشهود، أطلق القاتل النار على القس الإيطالي من الخلف، ثم صاح بعدها قائلاً: "الله أكبر". ولكن هناك تفسيرًا آخر للحادثة سيطر بشدة على أذهان السكان الذين يقطنون تلك المدينة الصغيرة التي تطل على البحر الأسود، وذلك في الأسابيع التي أعقبت تلك الحادثة التي وقعت في الخامس من شهر فبراير بالقرب من منصة الكنيسة الوحيدة هناك والتي تقع على بعد مائة ميل. كان السكان يتهامسون فيما بينهم أن القس كان يعمل منصرًا، وأن مقتله كان بسبب نزاع على النقود التي يقول الأتراك منذ فترة طويلة: إن المنصرين يدفعونها للمسلمين سعيًا لتحويلهم للنصرانية. يقول رجب هيكوركميز، سائق إحدى سيارات الأجرة الصغيرة البيضاء التي تكتظ بها شوارع المدينة شديدة الانحدار: "كل الناس يقولون إنه كان يدفع للكثير من طلبة الجامعات 100 يورو شهريًا لتنصيرهم" وتقول امرأة تطل شرفة الشقة التي تقطنها على الكنيسة: "أنا أيضًا سمعت ذلك الكلام" موضحة أنها سمعت سانتورو يتجادل مع جماعة من الشباب في اليوم الذي سبق الحادثة. ولكنها قالت إنها لم تسمع الحوار الذي دار بينهم. وأضافت: "إنهم يقولون إن الفتى أخبر صديقه بأن القس أعطاه مائة يورو للتسجيل هنا، وأنه إذا ما رحل، فإنه سوف يحصل على نفس المبلغ منه" ويبدو أن هذه فقط هي كل الآراء التي يرى الناس أنها سبب في الحادث. ويقول "ماهيا أوستا" المحامي الذي يتولى الدفاع عن الفتي التركي المتهم باغتيال الكاهن : إن هذه الأنشطة التنصيرية "ليست لها أي علاقة بقضيتنا" كما قال زعماء الجالية المسيحية شديدة الصغر الموجودة بتركيا. إن الإشاعات القديمة التي تقول بأنهم يدفعون أموالاً لتنصير المسلمين قد أضرت بسانتورو على وجه الخصوص. ويقول الأسقف لويجي بادوفيز، أسقف الكاثوليك بالأناضول: "ليس لدينا مال ندفعه لأحد" وأضاف: "إنني أعطي لأندريا نفسه300 يورو شهريًا. فمن أين له أن يعطي هو لكل فرد 100 يورو شهريًا!" ولكن يبدو أن لهذه الروايات المحلية للحادثة خلفية ما في الحقيقة، هذه الخلفية تكمن في ذلك االشعور المترسخ في تركيا تلك الدولة التي من المفترض أنها جمهورية علمانية والتي كثيرًا ما يستشهد بها المسئولون الأمريكيون حيث يعتبرونها نموذجًا للديمقراطية في العالم الإسلامي من انعدام الثقة والارتياب في المسيحية. يقول عيسى كيراتيس، الناطق باسم الكنائس البروتستانتية الإنجيلية والتي يبلغ عددها حوالي 80 كنيسة : "ربما تكون تركيا حقًا دولة علمانية، ولكن تصرفاتها وسلوكياتها ليست كذلك" لقد كانت تركيا تلزم النصارى واليهود بدراسة الدين الإسلامي في حصص الدين التي تعد بدءًا من السنة الرابعة بالمدارس التركية، وذلك إلى أن تمكنت الأقليات الدينية من تغيير القانون. كما قامت الدولة بمصادرة المئات من ممتلكات الكنيسة، ولكنها أعادت مؤخرًا بعضًا مما صادرته تحت ضغط الاتحاد الأوروبي التي تسعى للانضمام إليه. إن تركيا، التي يبلغ عدد النصارى بها 100.000من إجمالي عدد السكان البالغ 70 مليون نسمة، تؤيد بصفة رسمية وتحمي كل المعتقدات الأخرى غير الإسلام، ولكن تركيا، على خلاف أفغانستان التي هددت الشهر الماضي بإعدام أحد المرتدين الذي تحول إلى النصرانية، ليس لديها قوانين تجرم الردة بالنسبة للمسلمين، أو تمنع المحاولات التي تسعى لإغوائهم بترك دينهم أو لتنصيرهم. ورغم ذلك، قامت الشرطة التركية بتوجيه تهم ل293 شخصًا بدعوى ممارستهم ل"أنشطة تنصيرية"، وذلك في الفترة من عام 1998 وحتى 2001، وهذا طبقًا لما أعلنه رئيس الوزراء أمام البرلمان مؤخرًا. بالإضافة إلى ذلك فإنه يتم تحذير كل من يجري مكالمة هاتفية مع الجماعات المسيحية العاملة داخل تركيا من التفوه بكلمة "منصر" على أي خط هاتف مفتوح. ويقول أحد موظفي الاستقبال: "الكثير من أصدقائي يستخدمون كلمة "إم" بدلاً منها. ويعود هذا التوتر على الأقل إلى القرن الثالث عشر، عندما تم طرد الصليبيين من تلك المدينة التي تحمل اليوم اسم إسطنبول. وقامت مديرية تركيا للشئون الدينية بإصدار نشرة في شهر يونيو الماضي أعلنت فيها أن "العمليات التبشيرية لها علاقة بالحملات الصليبية" كما قامت تلك المديرية، والتي تتولى السيطرة على المساجد التركية، بتوزيع نص لخطبة الجمعة على المساجد منذ عام مضى. وقام الأئمة بناء عليها بتحذير المسلمين من أن الحملات التنصيرية مشتركة في مؤامرة ل"سرقة معتقدات شبابنا وأطفالنا" ويعكس هذا التحذير حقيقة صعبة كامنة تحت ذلك القناع الرسمي الذي تضعه تركيا والذي يمثل الفكر العلماني والحداثة الغربية. فالهوية التركية الآن، على الرغم من مرور سبعمائة عام على الحملات الصليبية وثمانية قرون على انهيار الدولة العثمانية التي كانت توحد المسلمين تحت خلافة واحدة، تتشكل من مزيج قوي من الوطنية والدين. لقد صارت عبارة: "أحمد الله على أنني تركي ومسلم!" شعارًا لايزال يستخدمه الأشخاص القدامى. وتعود جذورالهوية التركية بصورة جزئية إلى السياسة التي كانت سائدة في العشرينات في الوقت الذي كانت القوى الأوروبية تعزز من الطموحات الإقليمية للدول المسيحية المجاورة لتركيا، وخاصة اليونان. كما يعود العداء الخاص تجاه الحملات التنصيرية إلى القرن السابق، عندما استغلت الدولة العثمانية المنهارة الدين لحماية أركانها. واليوم تشير هذه الموجة من العداء التي يصفها المسيحيون الأتراك بشكل ضمني خطير إلى القوى الغربية. فقد كشفت استطلاعات الرأي أن الغالبية العظمى من المسلمين يرون أن الحرب في العراق وأفغانستان ما هي إلا هجوم على الإسلام. أما في تركيا، العضو في حلف شمال الأطلنطي والتي كثيرًا ما توصف بأنها تمثل جسرًا بين الحضارات، يكون الشعور بالعداء تجاه الولاياتالمتحدة مرتفعًا بصفة دائمة. ويقول كيراتس الناطق باسم كنائس البروتستانت : إن نظراءه من الأتراك يسألونه "إذا حدثت حرب، فإلى أي جانب ستقاتل؟ إنني حقًا لم أستطع أن أجعلهم يدركون أنني على الرغم من أنني مسيحي، فإن شعوري تجاه بلادي هو نفس شعوري تجاه ديانتي. ولكنهم لا يدركون ذلك" لقد تعرض بيهنان كوناتجان، مسئول الجمعية الإنجيلية في تركيا، للاعتقال أكثر من مرة، وذلك لأنه كان يقول بأن كل مسيحي عليه أن يقوم بنشر "الكلمة الطيبة" وبالدعوة إلى النصرانية. وأضاف: "عندما أقوم بإلقاء موعظة ما، يظن الناس أنني عدو لبلدي" وهكذا ربما يكون العنصر الوطني قد تجسد في حادثة مقتل سانتورو. وذلك لأن مدينة وميناء طرابزون، لا تشتهر بالأصولية الدينية. ولكنها معروفة بانتشار المتعصبين القوميين بها. ويقول الأسقف بادوفيس: "إننا نعتقد أن المسألة ليست مسألة دين فقط، ولكنها مسألة قومية أيضًا..إنها قضية الاثنين معًا" وقال إنه كانت تصلهم أنباء من أن سانتورو يواجه الكثير من الأشخاص الثائرين الذين يتهمونه بالقيام بأنشطة تنصيرية، والتي يزعم بادوفيس أن الكنيسة حريصة على عدم تشجيعها. و يقول عبد الله يوردوسيفين، الذي يعمل ترزيًا ويحمل المقطع الأخير من اسمه معنى المحب لوطنه: "إن هذا يشبه ما يحدث قبل الانتخابات، فدائمًا ما يقول الناس: إن الأحزاب تقوم بتوزيع أموال في القرى" وأضاف: "إننا لا نعرف أبدًا صدق هذه الدعاوى من كذبها" ويقول كيراتس إنه قبل شهر من حادثة الاغتيال، تعرضت إحدى البعثات التنصيرية الأجنبية للضرب المبرح ثم تم طردها من المدينة بعد أن تلقت تهديدات بالقتل، وأضاف: "إن طرابزون مدينة مضطربة إلى حد ما" ليس هناك الكثير من المعلومات المتاحة عن الفتى ذي الستة عشر عامًا المشتبه به والذي من المنتظر أن تتم محاكمته في قضية سانتورو. كل ما يعرف عنه هو أنه تم فصله من مدرسته الثانوية القريبة من منزله بسبب كثرة تغيبه عنها، وقد أكد محاميه الخاص أنه كان يعالج عند طبيب نفسي. ويقول كاهيت كوس، صاحب المكتبة الملاصقة للمنزل الذي يعيش به هذا الفتى برفقه والدته إنه "لم يكن لديه أصدقاء، حيث كان انطوائيًا" وأضاف كاهيت: "أعني أنه تخيل يمر كل يوم على نافذة العرض هذه ومع ذلك فإنني لم أره مطلقًا" وصرحت صحيفة "كارادينز" المحلية التركية في عنوان لها "هاهو الفتى"، وذلك بعد أن تم إلقاء القبض على شخص يشتبه به، ولكن الصحيفة القومية قامت بالتشويش على وجهه. وتقول الصحيفة: "الدليل الأول: لقد طلب مبلغ 500 دولار، ولكنه لم يتمكن من الحصول عليها" المصدر : مفكرة الاسلام