يستطيعُ أيُّ مراقب أن يتعرَّف على قوة الأمَّة العربيَّة وعافيتها من عدمها بمتابعته لمؤتمرات القمَّة وما يسبقها من اجتماعات لوزراء الخارجيَّة العرب، فإذا كانت الأمَّة في حالة ترابط ومنَعَة نسبيَّة نجد التنسيق جيدًا والحضور مكتملًا والتعاون قائمًا، كما نجدُ مقرَّرات القمة قويَّة وغير مُعادة، كما نجد أن هذه المقرَّرات تخرجُ بالإجماع، أما إذا كانت الأمَّة في حالة من التشتُّت والوهن وانعدام الوزن، فإننا نجد الخلافات قائمةً ومستعرةً بين الحكومات والأنظمة وبين الوفود وبعضها، ونجد التلاسُن حادًّا، والحضور ضعيفًا، والمقرَّرات معادة ومنخفضة السقف، والصوت خافتًا. ولا يخفى أن الأُمَّة تعيش هذه الحالة من عقود طويلة، وهو ما أثَّر على الجامعة العربيَّة ومنظماتها ومؤتمراتها كمؤسَّسات للعمل العربي المشترك، وكانت نتيجتُه أن أزمات العرب ومشاكلهم تتفاقم في فلسطين ولبنان واليمن والصومال والسودان والعراق، وهناك عددٌ من الدول الأخرى المرشَّحة لأن تأخذ مكانها على خريطة الأزمات. ففي كل أزمات العرب وملفاتهم الرئيسيَّة نجدهم يريحون أنفسهم ويوكلون غيرهم لكي يحلَّها، فهم في فلسطين قد تركوا الأمر للولايات المتحدة والترويكا، وفي العراق تركوا الأمر للأمريكان والإيرانيين، وفي السودان والصومال تركوا الأمر لأوروبا وأمريكا والاتحاد الإفريقي، وفي اليمن دارت الأمور وكأنها لا تعني أحدًا من العرب، وفي لبنان كان للعرب صوتٌ خافت وجهود، ولكنها فرديَّة وغير مكثَّفة. ورغم أن الإعلام العربي يتوفَّر الآن على منابر جيدة تساهم في رفع الوعي بقضايا الأمَّة وتقدِّم الرؤية والتحليل الجيدين، ورغم أن الجامعة العربيَّة تحظى بقيادة دبلوماسيَّة جيِّدة وطموحة، ورغم أن العرب يملكون الأرصدة والميزانيَّات التي من شأنها أن تساهم في ترجمة مقرَّراتهم إلى واقعٍ ملموس، إلا أنه يبدو أن الخَلَل الرئيسي هو أمر آخر مختلف تمامًا ويتعلَّق بالإرادة السياسيَّة للأنظمة العربيَّة ومدى ما تتمتَّع به من استقلال في القرار السياسي وعدم تبعيَّة لأية جهة أو قوة دوليَّة. إذا ناقشنا ما انتهتْ إليه القمَّة العربيَّة الاستثنائيَّة التي انعقدت مؤخرًا في مدينة سرت الليبيَّة، في ظلّ المعطيات السابقة، فسوف نجد أن جدول أعمال القمة تضمَّن مناقشة تطوير منظومة العمل العربي المشترك، وسياسة الجوار العربيَّة وإقامة رابطة الجوار الإقليمي.. وكانت هناك مناقشة سابقة لهذه القضايا ولكن القمة طالبت بالمزيد من الدراسة، وهو ما قامت به الجامعة العربيَّة. ورغم أن القمَّة كانت استثنائيَّة، إلا أننا لم نَرَ فيها أي شيء استثنائي، فقد غلب عليها نفسُ الأسلوب العربي التقليدي والمعتاد في معالجة القضايا والمشكلات، وهو يتلخَّص في الاتفاق على ما هو متفَّق عليه وإرجاء النقاط الخلافيَّة، ولذلك فقد قرَّروا تشكيل لجنة لمواصلة دراسة مقترح منتدى الجوار العربي من كافة جوانبِه والترتيب الملائم لاعتمادِه بالاستعانة بفريق من الخُبراء والسياسيين والقانونيين. وقد اعتبرَ الرئيس السوري بشار الأسد أنه لا يمكن بناء علاقات متميزَة مع الجوار دون إصلاح العلاقات العربيَّة -العربية أولًا، وإرساء الأُسُس المؤسساتيَّة لتطويرها وإثرائها في جميع المجالات، وهو موقف معقول ومطلب له مسوغاتُه، فالبناء الموجود له أولوياتِه في الإصلاح قبل البدء في بناء جديد. بينما أكَّد الرئيس المصري حسني مبارك على ضرورة وجود رؤية عربيَّة موحَّدة للتعامل مع دول الجوار في إطار توافق عربي شامل مع مراعاة وضع كلِّ دولة عربيَّة في علاقاتها مع جوارها، وهي رؤية قد تبدو متناقضة، إذ كيف تكون الرؤية موحَّدة ثم نجعل هناك رؤى فرديَّة، ولماذا لا يتمُّ مراعاة المصلحة العربيَّة في كل القضايا المتعلِّقة بدول الجوار؟ وتحفظ وزير الخارجيَّة السعودي الأمير سعود الفيصل على اقتراح الأمين العام للجامعة عمرو موسى إقامة رابطة جوار، له أيضًا ما يبرِّرُه، وما ساقه الفيصل من مبرِّرات لتحفظه يستحقُّ المناقشة والدراسة، وهي ملاحظاتٌ تتعلَّق بتوقيت طرْح الرابطة وطبيعة العلاقات المتوتِّرة بين بعض الدول العربيَّة ودول مجاورة، والخوف من الخَوْض في موضوع يتناول ترتيب علاقات النظام العربي الذي ما زال العرب بصدَدِ ترميمه وإصلاحه مع جوار جغرافي قد لا نكون مهيَّئين للتعامل معه.. كلُّ ذلك يستوجب التهيئة له جيدًا في إطار البيت العربي أولًا، حتى يتمَّ معالجة المعوقات والإشكالات التي تعترضُ قيام نظام عربي فاعل وقادر على التعامل مع دول الجوار ككتلة متجانسة وموحَّدة. وأقرَّ القادة العرب التوصيات الخاصَّة بتطوير منظومة العمل العربي المشترك، لكنهم كلّفوا الأمانة العامَّة لجامعة الدول العربيَّة بإعادة صياغة هذا المشروع ودراسة التبعات المترتِّبة عن عمليَّة التطوير وعرض الموضوع على القمة العربيَّة المقبلة التي ستعقد في مارس من العام 2011، وفي حين دعا الرئيس المصري حسني مبارك إلى التدرُّج في إصلاح النظام العربي مع الإبقاء على اسم جامعة الدول العربيَّة، طالب الرئيس الليبي معمر القذافي بالإسراع في الاتحاد العربي. وهكذا كشفت القمَّة الاستثنائيَّة عن انقسام المجتمعين بشأن تطوير آليات العمل العربي المشترك، وإصلاح جامعة الدول العربية بين مطالب بإيقاع سريع للإصلاح وآخر على نقيضه وثالث بينهما. فهناك فريقٌ تقوده ليبيا واليمن ويريد إيقاعًا سريعًا للإصلاحات ويطرح تحويل الجامعة إلى اتحاد عربي ومفوضيَّات، أما الفريق الثاني فهو على النقيض لا يريد أن يمضيَ قدمًا في هذا الطريق، باعتبار أن الأوضاع غير مهيَّأة الآن، والفريق الثالث يقع بين هذين الاتجاهين وتقوده مصر ومعها غالبيَّة من الدول العربيَّة، وتدعو إلى تطوير في العمل العربي المشترك يتواءَم مع الوضع العربي الحالي، أي التدرُّج في الإصلاح. وفيما يتعلَّق بالملف الفلسطيني، فإن لجنة المتابعة العربيَّة قد أيَّدت القرارَ الفلسطيني تعليقَ مباحثات السلام مع إسرائيل، إلى أن يتمَّ التمديد لتجميد بناء مستوطنات جديدة في الأراضي المحتلة، ورغم تأكيد الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى أنه لم يكن بوسْع أي زعيم عربي تأييد استمرار المفاوضات في ظلّ استمرار الاستيطان، فإن لجنة المتابعة ما زالت حريصةً على إرضاء الولاياتالمتحدة وتخشى غضبَها، ولذلك فهي تدعو الولاياتالمتحدة إلى الاستمرار في جهودِها لتهيئة الظروف المناسبة لإعادة العمليَّة السلميَّة إلى مسارها الصحيح وعلى رأسها وقْف الاستيطان. وطرح رئيس السلطة الفلسطينيَّة محمود عباس عدة بدائل لإقامة الدولة الفلسطينية إذا لم يتمّ التوصل إلى اتفاق حولها خلال المفاوضات مع إسرائيل، وهذه البدائل هي "الحصول على اعتراف من الإدارة الأمريكيَّة بدولة فلسطينيَّة في حدود العام 1967"، أو "اللجوء إلى مجلس الأمن لنفس الهدف" أو إلى "الجمعيَّة العامة للأمم المتحدة لوضع الأراضي الفلسطينية تحت الوصاية الدوليَّة". محمود عباس طالب القمَّة بالسعي للحصول على تعهُّدات من الولاياتالمتحدة والأمم المتحدة بالاعتراف بدولة فلسطينيَّة تعلنها السلطة الوطنيَّة الفلسطينيَّة من جانبٍ واحد، وألمح إلى إمكانيَّة تنحِّيه عن السلطة إذا وصلت الأمور إلى الباب المسدود. وقد جاء موقف محمود عباس بعد أن بات واضحًا أن الإسرائيليين يسعون للحصول على ثمن سخيّ مقابل تمديد تجميد الاستيطان لفترة محدَّدة، وتم الكشف عن وجود طلب من نتنياهو يطالب بأن يلتزم الرئيس الأمريكي بالتعهُّدات الخطيَّة لسلفه جورج بوش مقابل تمديد جديد لتجميد الاستيطان، وهي التعهدات التي عبَّر فيها بوش عن تأييده لأن تضمَّ إسرائيل الكتل الاستيطانيَّة الكبرى في إطار اتفاق نهائي، لكن الإدارة الأمريكيَّة الحالية ترفض الاعتراف بهذه الرسالة بحسب الصحيفة. وقد شهدَ الملف الفلسطيني اختلافًا واضحًا في الرؤى بين عدة أطراف خلال الجلسة المغلقة، فحدث سجال بين الرئيسين السوري بشار الأسد والفلسطيني محمود عباس بشأن لجنة المبادرة العربيَّة للسلام؛ إذ اعتبر الأسد أن لجنة المبادرة غير معنيَّة بمنح الفلسطينيين رخصةً للتفاوض، فردَّ عليه عباس بأن القضيَّة الفلسطينيَّة قضيَّة عربيَّة بالأساس، معتبرًا أن عدم اختصاص لجنة المبادرة بالموضوع الفلسطيني يعني تخلي العرب عن القضيَّة الفلسطينيَّة، بينما كان السجال الأقوى بين الرئيس القذافي ومحمود عباس بشأن الموقف من المقاومة، بعدما وجَّه محمود عباس انتقاداتٍ حادَّة إلى حركة "حماس" واتهمها بأنها تعمل بأجندة إيرانيَّة، وأن طهران تمنع المصالحة الفلسطينيَّة، فتساءل القذافي: كيف يمكن أن يقاوم الفلسطينيون وهم مرتبطون بعلاقة مع إسرائيل؟ وهنا تدخَّل الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ليؤكِّد ضرورة تقديم الدعم الكامل للمقاومة الفلسطينيَّة. وإذا كان السودان يواجه أخطر أزمة تواجه حاضرَه ومستقبلَه، وهي الانفصال المنتظَر للجنوب مطلع العام المقبل، بضغطٍ من الولاياتالمتحدة وأوروبا، فإن قادة العالم العربي اكتفوا بمجرد كلمات تؤكِّد على دعم وحدة السودان وسيادتِه، وعلى التزام الجامعة العربيَّة بالعمل والتعاون الوثيق مع الاتحاد الإفريقي والأمم المتحدة لمساعدة السودانيين في وضع الترتيبات اللازمة لإجراء الاستفتاء، وكأننا في حصَّة إنشاء لاختيار أفضل التعبيرات، أما التحرُّك الجاد والزيارات الميدانيَّة والاجتماعات العربيَّة المتوالية في السودان والاتصال بالأطراف الدوليَّة وبقادة جنوب السودان ووضع خطَّة مكثَّفة لتحرُّك عربي لمواجهة هذه الكارثة، وطرح خطة للاستثمار العربي في شمال السودان وجنوبه.. إلخ، فهذا لا يدخل في اختصاص القادة أو الجامعة، وإنما له أطراف دوليَّة تتعامل معه! وفي الشأن الصومالي الخطير والمعقَّد، ما زال القادة العرب يعتبرون الصومال دولة غير عربيَّة، ولذلك اكتفوا ببعض كلمات الدعم، من قبيل الترحيب بتوجُّهات الرئيس الصومالي شريف شيخ أحمد الخاصَّة بتفعيل المصالحة الوطنيَّة، ودعوة جميع الأطراف الصوماليَّة إلى اتخاذ الحوار سبيلًا وحيدًا لحلّ الخلافات، إلا أن الشيء الوحيد الإيجابي هنا هو قرار القادة بمنْح دعمٍ مالي شهري قيمتُه عشرة ملايين دولار للصومال لتمكين الحكومة من تنفيذ برامجها في الأمن والاستقرار. ورغم الأحداث المتوتِّرة والمتصاعدة في اليمن، اكتفى القادة العرب بالتأكيد النظري المعتاد على دعْم وحدة اليمن والوقوف إلى جانبه في جهوده لمكافحة الإرهاب، لكن الحديث عن آليَّة لمساعدة اليمن اقتصاديًّا من أجل التخفيف من آثار أزماتِه الاقتصاديَّة مما من شأنِه تهدئةُ الأزمة السياسيَّة، أو الحديث عن دعم لجهود المصالحة وتشكيل لجنة لمساعدة اليمن في ذلك، أو الحديث عن جهود عسكرية عربية لحماية اليمن من تدفق السلاح عليه.. إلخ، كلُّ هذه الآليَّات العمليَّة والفعَّالة لم يلتفت القادة إليها، وكأن الأحداث لا تَعنيهم، حتى يفاجأ الواحد منهم بأحداث مشابهة في بلاده. وأخيرًا، فهل أصبح الحديث عن إطار فاعل للعمل العربي المشترك، يترجم المصالح العربيَّة العليا إلى واقع ملموس، ويدافع عن الحقوق العربيَّة، ويتدخل بكفاءة وفاعليَّة لحلِّ أيَّة أزمة في أيَّة دولة عربيَّة، ويسعى لرفاهية الإنسان العربي؟ هل أصبح ذلك حلمًا بعيد المنال لن تراه الأجيال العربية قريبًا؟! المصدر: الاسلام اليوم