ليس مستبعدا في ظل حالة الكراهية والعداء والهوس المرضي بنفي ونبذ الآخر أن يتجه الحوار بين النخبة المثقفة المسيّسة إلى استخدام "الرصاص" ليكون العقل بذلك قد غاب تماما عن مصر شعبا ونخبة وسلطة أيضا. طوال عمري لم أشهد أسوأ من هذه الفترة في العنف السلوكي واللفظي والتدني الأخلاقي الذي تعيشه مصر من أقصاها إلى أقصاها إلا من رحم ربي. لا أحد مستعد للنقاش والحوار والتفاهم مع من يختلف معه. لا السلطة تريد الحوار، ولا المعارضة تسعى إليه . كل طرف يريد أن يكسر الطرف الآخر، أن يهزمه بالضربة القاضية كما يفعل لاعبو الملاكمة في حلبات الموت، أو بلمس الأكتاف كما في المصارعة. صرنا الإخوة الأعداء، وهذا لا يحدث إلا في مجتمعات دخلت مرحلة التيه وعمى البصر والبصيرة. عندما يصير الدم مثل الماء فإن أي شيء وكل شيء بعد ذلك يصير عاديا، بل أقل من العادي. وعندما يصبح عدد القتلى في صراع سياسي وليس في اقتتال أهلي بالآلاف فمن سيتحدث بعد ذلك عن المئات، أو العشرات، أو الآحاد. لو قيل إن 10 قُتلوا فهذا صار خبرا روتينيا، وهكذا الوضع لو كانوا 20، أو أكثر، ومقتل مائة قد لا يحرك ساكنا، فالضحايا في أحداث سابقة كانوا أكثر من ذلك. هكذا حصل قبلنا في العراق وسوريا وأفغانستان والصومال وكل بلدان المسلمين المنكوبة بالدم والعنف والاقتتال الأهلي والصراع على الحكم والثروة والنفوذ حيث لم يعد أحد يهتم بعدد الضحايا اليومي، ولا بالدماء التي تُراق، ولا باستمرار القتل، ولا بأي كوارث مهما كانت، إسرائيل فقط هي الأسعد، والكل من حيث لا يدري يعمل لصالحها. هل مصر تسير على الطريق ذاته ؟!. نعم، لكنها مازالت في بدايته، ويمكن فورا إيقاف هذا السير المدمر الذي لن يربح منه أحد، لا سلطة، ولا موالاتها، ولا معارضة، ولا أنصارها، بل يجب " فرملة " تلك العربة الطائشة بالعقل والرشد والحكمة والمسؤولية الوطنية والأخلاقية وبمبادرة من السلطة قبل خصومها. انهيار البلد - لا قدر الله - سيتضرر منه الجميع لأن سقوط سقف الخيمة سيجعل الكل يكتوي بلهيب الشمس، وسقوط أعمدتها سيجعل الجميع في العراء بلا حماية. لا نريد أن نكون مثل لبنان حيث تتوزع الولاءات على الخارج، كل فريق يمد يديه للأجنبي ويمنعها عن أخيه شريك الوطن، يتحاربون بشراسة في الداخل، ويخضعون لأصحاب الولاءات بالخارج. في مصر إشارات مماثلة يجب التصدي لها بكل قوة لأنها دخيلة على تاريخها وشعبها، فهناك من يصادقون ويصاحبون خارج الحدود، ويخاصمون داخلها، إشادة وإطراء للغريب، وكراهية وحقد للشقيق والشريك، وردة لذاك البعيد، وخنجر لهذا القريب. الإعلام غير المسؤول ومن يقفون وراءه ممن يغذون خطاب الكراهية يقودون مصر إلى محرقة كبرى. ماذا في السلطة من مزايا اليوم وبعد اتساع الوعي حتى يتكالب عليها المتكالبون ويصل الأمر إلى القتل والحرق والمطالبة بالتطهير العرقي على غرار الهولوكوست. يكفي مشهد طازج على الهواء مباشرة بين منتصر الزيات وعبد الحليم قنديل لنتأكد إلى أي مدى وصل مرض الكراهية العضال الذي لو لم نُشفَ منه سريعا فسيكون علاجه مستحيلا بعد ذلك. كادا يقتتلان، كانا عدوين، أليس المثل يقول "رش الماء عداوة"، وكلاهما رش الآخر بالماء وقذف الآخر بالاتهامات وخلع عليه الأوصاف غير اللائقة، وهما شقيقان في وطن واحد، ولهما هدف واحد وإن اختلفت الوسيلة، وهو الإنقاذ والإصلاح. إذا كان المثقفون والمسيّسون وأصحاب العقول الكبيرة يفعلون ذلك، فماذا تركوا للعامة وللخارجين على القانون؟!. مصر في خطر حقيقي سياسيا واقتصاديا وأمنيا واجتماعيا وأخلاقيا، ويمكن إصلاح أي خلل إلا الأخلاقي فهذا يحتاج لفناء أجيال وتربية أجيال أخرى حتى يعتدل ميزان السلوك. سحقا لأي كرسي، وأي سلطة، وأي مصالح ومنافع، فكل ذلك زال عن مبارك بعد 30 عاما من الاستمتاع به، ويزول بالموت عن العظماء، المهم ألا يفقد الإنسان إنسانيته، ألا يفقد المصري مصريته، ألا يفقد أعز ما يملك وهي خصاله الطيبة، ألا يتحول إلى وحش في صورة إنسان. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.