شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن هدى للناس ... شهر رمضان ، شهر العبادة والرجوع إلى الله ... شهر رمضان ، شهر التوبة والمغفرة والرحمة ... شهر رمضان ، الشهر الذى انتصار المسلمين فى غزوة بدر منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام ، وفى العصر الحديث شهد انتصار المصريين على دولة العدو الصهيونى ؟ شهر رمضان الذى تُسَلْسل فيه الشياطين ... لكن شياطين التلفزيون المصرى انطلقت تبث اللهو والتسلية والتفاهة والسطحية والغيبة والنميمة والسباب وسخرية قوم ممن قوم .. طوال التاريخ ، كبرت مصر وعظُمت وطالت قامتها أمام العرب والمسلمين ،عبر قرون طويلة ، بما كانت تقدمه من إبداعات فكرية وثقافية وأدبية وسياسية وفنية ، حملتها اقدم صحافة عربية ،وأقوى إذاعات عربية فى مصر ،وأقدم وأقوى تليفزيون عربى فى مصر.. وعلى يد التلفزيون المصرى الحالى ، بقنواته الرسمية والخاصة، فى رمضان الماضى ، صغرت مصر وتقزمت أمام الجميع بما بثه تلفزيونها من سموم الفن والأدب والأخلاق واللادينية .. مهما قال البعض عن إذاعة صوت العرب فى الخمسينيات والستينيات ، لكنها كانت صوت مصر الذى يوقظ النائمين ويبث الوعى بين العالمين ،ويدعو إلى التحرر ،وفأصبح علامة رائعة على قوة مصر ، تم استبداله الآن بجهاز يشغل الناس طوال الأربع والعشرين ساعة ، وخاصة فى شهر رمضان ليصرفهم عن العبادة وذكر الله ،وما يعمق التفكير ويرهف الحس ،ويوقف بث دماء صحة وعافية فى عروق الأمة ... ما الذى جرى ؟ هل هو حلقة أخرى فى مسلسل التراجع الكبير ، من دور إقليمى إلا انكفاء على الذات وقصور فى الخدمات الحياتية الأساسية ( خبز ، وماء ، وكهرباء ، وإسكان ..) ؟ شددو الهجوم على تلفزيون الجزيرة بدعاوى عدة ، معظمها تافه ،ولم ينتبهوا إلى أن المواجهة العلمية الفعالىة تكون بتقديم نموذج افضل وأكثر فعالية ، لكنهم ، برهنوا بتفاهة تفكيرهم ، فقدموا نموذجا يُعلى من قامة الجزيرة ، قناة الدولة التى لا يصل عدد سكانها عدد سكان شبرا ،وينهزم أمامه تلفزيون مصر ذات الحضارة التى علمت العالمين ،وذات الثمانين مليونا من الناس، لأنه بث للناس قمامة تناطح أكداس القمامة المبعثرة فى كثير من المناطق ، باسم الفن وباسم الترفيه وباسم التسلية ،وكل هذا منه براء ! لن ندخل فى جدل نظرى لنناقش مهمة الإعلام من حيث التثقيف والتعليم والترفيه والإخبار والتدريب ،وهكذا ،ولكننا نتطلع إلى الحد الأدنى مما يجب أن تكون عليه رسالة الإعلام .. منذ عدة عقود ، كنا فى دولة عربية نعمل ،ولم أمامنا إلا تلفزيون الدولة ، فإذا به قناة بث خطب ومواعظ ودعاية ،وقلما قدم ترفيها ، حيث لم تكن الفضائيات قد ظهرت بعد ، بل ولا الفيديو ، فشعرنا بالقهر وكأننا محاصرون ، فإذا بنا اليوم أمام إعصار جارف ، يخرب ولا يبنى ، يدمر ولا ينشئ ،وكأنه كُتب علينا التنقل من تطرف إلى يمين ، إلى تطرف إلى يسار.. آخر ما شاهدناه صدفة " أراجوز " من أراجوزات العصر ، تفتح له شاشات التفزيون على مصراعيه ليحاوره صحفى كبير ونابه ومحترم ، فيقول هذا الأراجوز أنه كان مجرد طبال بلدى ،وفى أحد الأفراح غاب المطرب فطلبوا منه أن يغنى ، فغنى ،ومنذ ذلك الوقت وهو يسير من نجاح إلى نجاح – بمقاييس عصر التراجع ،ويسخر هذا الأراجوز من القول بأن للفن رسالة ،ويعيد ويكرر " رسالة إيه يا عم " ..والمذيع مذهول ،ويبتسم ابتسامة سخرية .. وإذا كان هذا الأراجوز الذى غنى للحمار معلنا حبه له ، يعد علامة على نوعية المجتمع القائم ومستواه ، فقد كانت أغنيات كليوبترا والجندول لعبد الوهاب ،وولد الهدى ، ورباعيات الخيام ،والأطلال لأم كلثوم ، علامة على نوعية المجتمع المصرى الذى كان قائما !! واستضاف برنامج آخر أراجوزا ثانيا أفرد له وقتا طويلا ،نظرا لتقييم تلفزيوننا الساقط الذى يبدو أنه أبصر ما لم نبصره نحن ..أبصر البصمة الفنية التى تركها هذا الأراجوزعلى التاريخ المصرى ، خاصة بعد إعلانه أنه ليس " خرونجا " ،ولا تكتفى مسئولة البرنامج بما يبثه من تفاهات ، لتزيد الطين بلة ،وتساله السؤال الخطير الذى يثقف ويعلم ويُدَيّن " اتشقيت قبل كدة ؟" ، فيؤكد الضيف المصرى العظيم ، وفنان العصر،الذى ينافس قناة الجزيرة بما تقدمه من لقاءات الدكتور القرضاوى ،ومحمد حسنين هيكل ( المصريان العالميان العظيمان اللذان لم يجدا من يستثمرهما فى مصر ) أنه " طبعا اتشقيت كتير " ،وعندما يعلن للمذيعة العظيمة (!!) أنه تاب إلى الله ، تحاول أن توقعه وتجرجره إلى ما يدخل مرة أخرى فى باب الشقاوة لأن الحديث عن التوبة لا يريحها فيما يبدو !! وتستنكر فنانة عظيمة من علامات العصر فى مصر المعاصرة أن يتضمن الفن فضيلة ، على أساس –كما تؤكد وتروج – أن الفن شئ والفضيلة شئ آخر ،وعندما يهم أحد الضيوف بانتقاد أفلامها ، تعترض بشدة مطالبة له أن يبعد الجوانب الأخلاقية من معايير النقد والمحاسبة ..أى والله ، حدث هذا على شاشة تلفزيون الدولة ،وفى شهر رمضان ! وتفتش عن قرآن وتفسير ،وأحاديث دينية ،وصلوات ، فلا تجد ، وإنما تجد الرقص والشرب والعرى وتلعيب الحواجب والإفيهات الجنسية ، عبر ساعات ،ومتى ؟ ليلا ، أثناء صلاة التراويح !!وإلى درجة ، أننى عندما أسمع المؤذن ينادى من على شاشة تلفزيوننا : الله أكبر ، أصبحت أندهش ،وأتساءل عن الكرم الرهيب الذى فاض به التلفزيون ، فمسح بدقيقتين ، يرفع فيها آذان يذكرنا بأننا فى دولة عربية إسلامية ،ومع ذلك ، فأحيانا ما أشعر وكأننى أرى شخصا يؤذن للصلاة داخل " كباريه " !! وهذا الإعصار من الإعلانات ، حتى لكأن المشاهد أمام ساعات إعلانية ، تتخللها مشاهد من برامج أو مسلسلات ، يقولون أنها تدر مالا للإنفاق منه على ما يقدم ،ونعود مرة أخرى إلى منظومة القيم الاجتماعية والأخلاقية والفنية ، إن المسألة ليست مجرد مال ، وإلا ، فما الفرق بين هذا وبين كسب ملايين من ترويج المخدرات ؟أو دعارة ؟ أو رشوة ؟ألا تدر هذه القنوات أنهارا من الدخل ؟ من قبل ، قامت مناقشات واسعة ، عبر عقود ، حول العلم للعلم أم للمجتمع ، والأدب للأدب أم للمجتمع ؟ والفن للفن أم للمجتمع ؟ وهكذا ، وقد غلبت لدينا فى فترة من الفترات الوظيفة الاجتماعية ، فى التوجيه الأدبى والفنى ، حتى تحولت بعض الأعمال إلى خطابات دعائية فجة . لكن ، وبعد خبرة ومناقشات ، انتهى الجميع ،على وجه التقريب ،إلى أنها مناقشة سوفسطائية ،وأنه لا قسمة بين الأمرين ،وبالتالى فإن المجتمع ينعكس بالضرورة على صفحات الإنتاج العلمى والفنى والأدبى والثقافى ،ولابد ، من مراعاة الشروط العلمية والأدبية والفنية فى الإنتاج ، لكن لابد أيضا ألا يكون الإنتاج مخربا هادما باسم الفن أو باسم الأدب ، فهل يقبل الناس أن يقوم فنان عظيم ، يراعى كل الشروط والمواصفات الفنية العالمية والإبداعية ، فيرسم عضوى ذكورة وأنوثة يلتقيان ، محتجا بأنه غير معنى بالجوانب الأخلاقية والاجتماعية ؟ إن الذى حدث على شاشات التلفزيون المصرى فى شهر رمضان جريمة قومية خطيرة ، أشد خطرا مما يروجه البعض من خطر إيرانى أو مما نستشعره بالفعل من خطر إسرائيلى ، وأخطر مما نخافه من أزمة مائية وبيئية ، لأن هذا الخطر ينال عقول المصريين وقلوبهم وأرواحهم ..لا نقول ذلك من زاوية دينية ،وإن كنا نسجل أولويتها ، لكننا نتحدث بلغة المسئولين أنفسهم ..المسئولين عن إدارة مصر وحكمها وترديدهم دائما أنها فى القلب والعين والعقل لديهم ...فكيف نصدق؟ إننا بالطبع يستحيل أن نرضى باحتلال أى قوة لأرض الوطن ، لكن ما يحدث الآن ، هو والله أخطر مما كان من احتلال إسرائيلى ، الذى تصورنا أن زواله يعنى سلاما وطمأنينة ، فإذا بالعدو يدخل لنا من الشباك ، بعد أن خرج من الباب ، لكن ، على يد بعضنا ممن يخونون الأمانة والمسئولية ، فيعيثون فى الأرض إفسادا وتخريبا للنفوس وتجريفا للعقول وتفسيخا للعلاقات الاجتماعية وهدرا للطاقات وتضييعا للدين ! إن هذا الإسفاف هو " مفرخة " للتطرف والغلو ، فعندما يشتد الطوفان ،وتهب الأعاصير على من بالبحر ، يمسكون بأية " قشة " ويعضون عليها بالنواجز ،وهكذا ، جموع غفيرة من المواطنين ، عندما ترى عواصف من الإسفاف والتحلل تغمر أكبر جهاز إعلامى ،وتنفق عليه الدولة من الضرائب التى يدفعها المواطنون ملايين لابد أن تتجه اتجاها مضادا ، فتتطرف وتغلو ،وبالتالى تحدث شروخ غائرة فى جسم الوطن ، حيث يتمزق بين فئة تبث التفاهة والعرى واللأخلاقية والتسطيح ،وفئة قائمة المحرمات لديها أطول من قائمة الحلال ،وتكون الخسارة للجميع ، لا قدر الله !! عودوا إلى حديث السفينة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليتبين لكم ضرورة الضرب على أيدى من يسعون لإخداث " خرم فى قاع السفينة ، قبل أن تخرق بنا جميعا !!