لم تقرأ كتابا واحدا في حياتها , آخر عهدها بالقراءة هي المناهج التي درستها في الجامعة ونسيت كل حرف بها بعد الإنتهاء من أداء آخر إمتحان , كل علاقتها بالسياسة قبل ثورة يناير هو نشرة أخبار التاسعة والتي تأتي بعد المسلسل العربي و كانت كثيرا ما تغلق التلفاز حينما تراها , أما عناوين الأخبار التي تقطع عليها متابعتها للمسلسل فكانت فرصة لها لدخول الحمام أو صنع كوبا من شاي لحين عودة المسلسل ثانية , ما تعرفه عن نظام الحكم في مصر هو ما درسته في كتب التاريخ عن أن مصر جمهورية وأن ( محمد حسني مبارك ) هو ثالث رئيس لها , أما رئيس الوزراء فهي بالكاد تتذكر اسمه , تعرف أن البلد مليئة عن آخرها بالفساد ولا يتحرك بها شئ سوى بالواسطة , ولكنها ترى أن كل ذلك قدر محتوم , وأن الشعب المصري لا يمكن تغييره و سيظل هكذا إلى يوم يبعثون . لا تعرف شيئا عن ثورة يناير سوى ما سمعته عنها في قنوات الإعلام المصري , فهي تراها السبب في الفوضى و خراب البلاد , و أن جماعة الإخوان المسلمين هم من ركبوا تلك الثورة , أقصى علاقتها بالشارع , إنما هي شوارع الأسواق التي تتبضع منها وتشتري حاجياتها , والطريق لبيت أمها , وما تبثه قناة cbc عن المظاهرات في شوارع وميادين مصر , كل ما تعرفه عن الجماعات الإسلامية والإخوان المسلمين هو ما تراه في أفلام عادل إمام : ( كالإرهابي و طيور الظلام ) , فكل الجماعات الإسلامية في نظرها إرهابيين وتجار سلاح وقتلة , أما ابنة خالتها وصديقة عمرها الطيبة والمحبوبة و التي تنتمي لجماعة الإخوان المسلمين وكذلك جارتها التي تحبها لأنها أفضل سكان العمارة أخلاقا , وأيضا طبيبها العالم الخلوق و كذلك صاحب المكتبة التي تقع في شارعها والذي تراه إنسانا مهذبا وتربطها بأسرته علاقات مودة وإحترام , و كذلك الشيخ الذي يعلم ابنائها القرآن في المسجد , و معهم كل من تعرفهم وينتمون لجماعة الإخوان المسلمين , فهؤلاء جميعا في نظرها حالات خاصة وإستثنائية من مجمل تلك الجماعة الإرهابية التي تسعى فقط لحكم البلاد . تؤمن أن الشعب المصري لا يستحق الديمقراطية , وأننا شعب عنيد لا يصلح معنا سوى الكرباج , وكما تربت هي في بيت أبيها على الضرب بالحذاء , لا تتصور أن الحاكم يمكن أن يتعامل مع المحكومين أيضا بغير الحذاء , هي تكره فحش وبذاءة (عمرو أديب ) وتتعجب من أكاذيب ( زوجته ) , و تتقزز من بلطجة ( يوسف الحسيني ) و تحتقر كذب ( الإبراشي ) و تضليل ( إبراهيم عيسى ) وتزوير (مجدي الجلاد ) و تستنكر خرافات ( عادل حمودة ) و تهزأ من سخافات ( محمود سعد ) و عته ( توفيق عكاشة ) ومع ذلك تستمع لهم ليل نهار , ولا تستقي معلوماتها سوى منهم , بل و تردد كلامهم طوال الوقت ... واستجابة لحملاتهم الشعواء فقد خرجت في الثلاثين من يونيو مع غيرها من المصريين لمقاومة إحتلال جماعة الإخوان المسلمين لحكم مصر , الجماعة التي جاءت بسلم الديمقراطية وأخذت السلم معها فوق , الجماعة التي أفشت سرها بكل سذاجة لقائد الجيش وأخبروه أنهم جاءوا ليحكموا خمسمائة عام , وهو لأنه لا يريد أن يحلف , أقسم بالله على ذلك . فكانت تلك هي المرة الأولى التي تنزل فيها الشارع للتظاهر , فقد خرجت مع زوجها وابنائها في ظل حماية قوات الشرطة وظلت لمدة ست ساعات كاملة تحتفل بذلك الحدث الفريد في حياتها وهو التظاهر في ميدان التحرير , وسط حماية مدرعات الجيش وطائراته التي تلقي عليهم بالأعلام وكوبونات الهدايا , وزادت سعادتها حينما أقنعها الإعلام أن ما فعلته في تلك الليلة إنما هو ثورة أعظم من ثورة يناير التي خربت البلاد وجاءت بالإسلاميين لحكم مصر , ثم احتفلت مع المحتفلين بإسقاط حكم تلك الجماعة , وعزل الرئيس ( مرسي ) الديكتاتور والضعيف في ذات الوقت , صديق إسرائيل المخلص وعميل حماس في آن واحد , حليف أمريكا ورجل إيران في نفس اللحظة , وبالرغم من أنها رأت قتل ( جيكا وكريستي والحسيني ابو ضيف ) جريمة لا تغتفر في عهد الرئيس ( مرسي ) , إلا أنها لم تستنكر مقتل وحرق الآلاف في مذابح كبرى على يد وزير الدفاع وقائد الإنقلاب , واحتفلت يوم فض إعتصامي رابعة والنهضة بانتصار الجيش المصري على تلك الجماعة الإرهابية بتشغيل أغنية تسلم الأيادي , وبعد أن علمت بمقتل طبيبها ذلك العالم الخلوق في ميدان رابعة , حزنت وبكت عليه , ولكنها حملت الجماعة ذنب مقتله , فتلك الجماعة هي من تقتل أفرادها من أجل جذب تعاطف الجماهير معها , وحينما شاهدت صور وفيديوهات القتل والقنص والدهس و الإحراق للجثث وتجريفها على يد جنود الجيش وبواسطة مدرعاته , قالت : ( وأيه اللي وداهم هناك ) . وحينما شاهدت ذبح جارها صاحب المكتبة على يد البلطجية في عرض الشارع فقط لأنه ملتح , بكت أيضا بكاء شديدا ولكنها اعتبرت أن سبب قتله كما يقول لها الإعلام هو الإستقطاب الذي صنعه الإخوان المسلمون . وبعد أن كانت تجهر بسباب الرئيس محمد مرسي في الأماكن العامة بدون خوف أو وجل , وتنام في بيتها آمنة مطمئنة , وتضحك بملء فيها من برامج يقدمها اراجوزات يسخرون ليل نهار من كلام الرئيس و خطاباته و حركاته وأفعاله , أصبحت تخشى فقط من أن تتبرم من معيشتها أو تظهر غضبها أمام أحد من الأوضاع التي وصلت لها البلاد , و بعد أن رأت بعينيها رجال الجيش في الأكمنة يعتدون على الناس في الشوارع بلا أي ذنب , و رجال الشرطة و قد عادوا لسابق عهدهم من إهانات للجميع و إعتداءات ظالمة , بل و أصبح البلطجية يحكمون شوارع مصر تحت سمع وبصر الشرطة وفي حماية مركباتها , فقد لزمت بيتها ولم تستطع الخروج منه حتى في غير أوقات الحظر . و زاد من ضيقها واكتئابها تفاقم الأزمات و غلاء الأسعار و ضيق المعيشة وتأخير الرواتب وقطع الكهرباء و عودة الفساد و إنعدام الأمن .
حتى جاء ذلك اليوم الذي اقتحمت فيه قوات الإنقلاب بيتها وقاموا بالإعتداء عليها وعلى ابنائها وخلع حجابها وسرقة اغلب محتويات البيت من أجل القبض على ابنة خالتها , والتي كانت تزورهم في ذلك اليوم , تلك المدرسة المهذبة المحبوبة وأعز صديقة لها في الحياة بعد أن اتهمتها قوات الإنقلاب بأنها كانت تحمل مدفعا رشاشا حينما ألقوا القبض عليها , و أثبتت النيابة ذلك في تحقيقاتها واتهموها ايضا بأنها هي من تعدت بالضرب على عشرات من رجال الشرطة والمجندين , وبعد أن تم مد فترة الحبس الإحتياطي لأمد غير مسمى , وبعد أن قال لهم وكيل النيابة أنه لا يملك سوى إصدار أمر بحبسها وتجديد ذلك الحبس , لم يعد لها أي أمل في أن تقابل ابنة خالتها وصديقة عمرها مرة ثانية . فعادت لبيتها مكسورة ذليلة تجفف دمعها , والغضب يحطم فؤادها , فأسرعت لجهاز التلفاز وقد عزمت على مسح كل فضائيات و مراحيض الإعلام المصري بعد أن بصقت في وجه كل إعلامي كاذب وسفيه كان يخرج على واحدة من تلك الشاشات , ثم جمعت زوجها وابنائها ونزلوا جميعا إلى الشارع وهم يهتفون : ( يسقط يسقط حكم العسكر )