سارع اليهود لمقابلة هرقل القائد المنتصر .. وطالبوه أن يعطيهم عهدا ً بالعفو الشامل عنهم وعفا الله عما سلف .. فوافق هرقل .. وطلبوا توثيق العقد بالكتابة ففعل. واستأنف هرقل احتفاله حتى إذا دخل بيت المقدس اجتمع إليه قساوسته وأعيان مملكته وطالبوه أن يقتص لهم من يهود . لقد انحازوا للمحتل الفارسي وأذاقوا أهل البلاد الويلات .. وكانوا أشد عليهم من الفرس وفعلوا وفعلوا . واعتذر هرقل إليهم بالعهد الذي عاهدهم .. فعادوا يقصون ما جري حتى أحفظوه عليهم وتعهدوا بأن يحملوا عنه إصر نقضه للعهد.. بأن يرسلوا إلي كل أنحاء البلاد ليصوم الناس أسبوعا كل عام قبل الصوم الكبير أبد الدهر تكفيرا عن ذنبه بنقض العهد. واستجاب هرقل وانطلق عسكره ومعهم أهل البلاد ينكلون بهم ويقتلونهم أشنع القتلات .. فلم ينج منهم إلا من اختفي.. وذاقوا وبال غدرهم بأبناء وطنهم وانحيازهم للأجنبي. هي قصة حدثت في القرن السابع نقلناها بتصرف من الفريد بتلر ويوحنا النقيوسي .. ورغم نتيجتها المتوقعة إلا أن التاريخ يعيد نفسه من آن لآخر دون اعتبار . كلنا يعرف قصة المعلم – الجنرال – يعقوب بن حنا ومارية .. والذي حكت لنا أخباره كل الكتب التي كتبت عن الحملة الفرنسية علي مصر.. وكيف أنه سارع بالانحياز إلي المحتل الدخيل وانطلق مع جيش ديزيه إلي صعيد مصر يبحث له عما يخبئ الناس .. ويقوم للحملة بالأعمال القذرة من جباية وتعذيب وجلب نساء الفلاحين لاغتصابهن والاستيلاء علي الأموال والمحاصيل. حتى أن الناس ولفرط نشاطه وظهوره في هذه الأعمال القذرة سموا جيش ديزيه بجيش "المعلم يعقوب". ثم عاد إلي القاهرة فجند من شباب القبط ألفي شاب – كان عدد سكان مصر كلها مليونين ونصف المليون – وألبسهم ثيابا ً تشبه ثياب المحتل.. وصنع منهم كتيبة لمساندته فيما ارتكب من جرائم في حق شعبه وبلده. وحكت كتب التاريخ عن كثير من الجرائم البشعة التي ارتكبها هو وأمثاله من العملاء مثل برتلمين – فرط الرمان – وشكر الله وبابا زوغلو وأشباههم وهم يظنون ديمومة الاحتلال. ثم فوجئوا بهزيمة الفرنسيس وانسحابهم .. وأصبحوا وجها لوجه مع أبناء وطنهم وما ارتكبوه في حقهم من جرائم .. فر من فر منهم مع المحتل الدخيل خوفا ً من عواقب فعله قرابة الثمان مائة .. وبقي الباقون ينتظرون مصيرهم . ولكن التسامح الذي تميزت به حضارتنا انتصر علي الرغبة في الثأر والانتقام .. وسرعان ما صدرت فرمانات تدعو للامتناع عن التعرض لهم بالإيذاء.. وعفا الله عما سلف وتلتمس لهم المعاذير في جرائمهم . هذا المشهد المتكرر حدث لما غزا التتار الشام .. إذ سرعان ما انحاز بعضهم إلي التتار وانطلقوا يذلون المسلمين ويرتكبون الجرائم في حق أبناء وطنهم وجلدتهم. حتى إذا انهزم التتار وانزاحوا وجدوا أنفسهم وجها لوجه أمام عاقبة ما جنوا .. ولولا تغلب الحكمة والتسامح للحقوا بحلفائهم إلي القبور . هو نفس ما حدث من بعض نصاري بغداد والموصل .. وقد ظنوا أن الأمريكان قد جاءوا ليسلطوهم علي رقاب بني وطنهم من المسلمين . فلما فوجئوا أن أهدافهم تختلف كثيرا عما تخيلوا.. وأنهم صاروا وجها لوجه مع عاقبة ما فعلوا كانت الفتنة التي عمت الصالح والطالح . وبعد.... هي قصة تتكرر بوجوه مختلفة ولكن أصلها واحد .. قلة متعصبة تنظر تحت أقدامها ولا تري المستقبل . تستعين بالدخيل الغريب علي أبناء وطنهم وعشيرتهم.. ثم يفيقون علي الدخيل وقد انصرف عنهم بعد أن استنفذ غرضه وقضي حاجته .. وتركهم وجها لوجه مع أبناء وطنهم وعشيرتهم .. وذكري ما ارتكبوه في حقهم من أعمال . وقد تحدث الفتنة التي لا تبقي ولا تذر .. ويختلط فيها الحابل بالنابل.. ويبتلي فيها المظلوم قبل الظالم .. وقد تغلب الحكمة أحيانا ً.. ولكن النتيجة دائما لن تكون في صالح الخائن العميل . هل يعي إخواننا في الوطن الدرس ويدركوا أن أمريكا والغرب لن يبقوا في مساندتهم طويلا ً.. وإنما سينصرفون عنهم بمجرد أن تنتهي الحاجة إليهم. وهناك سيتكرر المشهد وسيجد أولئك المتعصبون الحمقي أنفسهم وجها لوجه أمام أبناء شعبهم وأهليهم من بني وطنهم.. وليس معهم إلا ما ارتكبوه من حماقات في حق بلدهم وأهليهم . وساعتها وربما قبل ذلك من يدري.. هل ستغلب الحكمة؟.. أم ستكون الفتنة التي لا تبقي ولا تذر؟ وقانا الله وإياكم شر الفتن