أحلى حاجة في مصر ناسها، إنسي السخافات التى تحدث بين الحين والآخر، والمشاكل التى تقع بسبب الفقر والبطالة، لكننا شعب زي العسل، وبني آدمين لم تتمكن مشاكل العصر منهم، ولم تؤثر عليهم تجارب الجيل الثالث من الحزب الوطنى، والخصخصة والمصمصة التي قضت على الأخضر واليابس، لكنها لم تتمكن من الوصول الى النقطة البيضاء فى جسده المنهك، وتركته بآصالته وطيبته وجدعنته. رمضان كريم، كلمه تسمعها يوميا مئات المرات، من أشخاص لا تعرفهم، تلتقيهم صدفة في المترو، أو تلتصق بهم بشكل لا إنسانى في الاتوبيس، حيث عرق الشعوب الذى ينهال من كل حته، ومعه ابتسامة من وجه طيب، يقول لك " رمضان كريم كل سنة وانت طيب"، يالها من جملة عبقرية ساحرة، تسمعها من لحظة خروجك من البيت وحتى عودتك اليه. في رمضان تعود كل الأشياء الى طبيعتها، ويظهر المعدن الحقيقي لكل المصريين، لو تأخرت مثلا عن موعد الإفطار، سكتشف العجب، شباب وأطفال زي الورد، يقدمون لك أكواب العصير وقمر الدين والبلح، وانت في مكانك في عربيتك أو متشعلق في ميكروباص، ومعها الجملة العظيمة" رمضان كريم وكل سنة وانت طيب" أما لو كنت ماشي فبالتأكيد لن تصل الي منزلك، وستجد من يضعك على إحدي الموائد لتنال حظك مما أنعم به الله على عباده، قد تجلس بجوار رجل بسيط، أوبجوار اسرة كاملة، الكل يأكل، لافرق بين مائدة أقامها ميسور في المهندسين، وبين مائدة في رمسيس أو الأحياء الشعبية. هل تجد مثل هذه الحالة إلا في مصر، شعب مطحون طول السنة، لكن ما أن يقترب رمضان ،حتى تجده وكأنه يغسل نفسه ويستعد لمرحلة جديدة، لن أنسي يوما عندما أوقفني كهل، وأقسم أن أفطر معهم في المائدة، كنت عائدا مع مصور زميل من مهمة صحفية، وحان وقت الافطار، ظهر الرجل وأقسم بأن نفطر خاصة وأننا غرباء لسنا من المنطقة، هو رجل بسيط علي المعاش، يوفر من قوته طوال السنة، ويجمع مع بعض الجيران مبلغا للمائدة، لن أنساه وهو يعتذر، لأن مافيش لحمه، دون أن يعرف أنني لم أتذوق في حياتى أكلا أطعم مما أكلت، عن نفسي لم أقابل تلك الحالة، ولم أسمع في أي دولة، عربية أو أجنبية، تمتلك مثل ناس مصر. حتى رمضان لن تجد له طعم سوي في مصر، أينما ذهبت ستستمع، اذا أردت العبادة فلن تجد خيرا من مساجدها، الكل يتسابق لختم القرآن الكريم، والصلاة كثيرا والاستماع الي الندوات الدينية، إذا احتجت السهر والخروج فمن الإبرة للصاروخ. أنا الآن بعيدا، أشعر بالفرق بين ناس مصر في رمضان، وأي ناس تانية، قد تكون الحياة في الخارج بها بعض المميزات، لكنها ليست أفضل في العموم ، الشوارع الزحمة التي تخلق الفوضي وترفع الضغط، هي نفسها التى يخرج من بينها شباب يفضون المشاكل التى تنشب، وأشخاص يوزعون عليك كتيبات أو أدعية، دون أن يطلبوا سوي الدعاء لهم، الشوارع نفسها في مصر تخلق معك صداقة، القهوجي الذي يغشك طول السنة بالفول السودانى المحمص، وحجر المعسل الناشف المبلول ببواقي الشاي، والنار الكتير عشان تغير الحجر بسرعة، بيتكسف على دمه ويعملك حاجة بضمير وهو يردد أمامك" رمضان كريم يا بيه حاجة أصلي"، البيوت التى تتزين بحاجة رمضان وحبال النور التي تشبه الشعيرات الدموية، وهي تربط بين البيت كأنها جسد واحد، ده طبعا قبل ما الحكومة تقطع شعيرات البيوت، وتمص دمها، بحجة إن الضغط على الكهرباء عالي، أتحدث عن شخص لا يعرفك ولا تعرفه، لكنه يمد لك زجاجة مياه في المواصلات قائلا" الفجر وجب خدلك بق ميه وانوي صيام" وعن اطباق داخلة خارجة بينك وبين الجيران، وعمن يتصل بك قبل الفجر للصلاة في المسجد وقراءة القرآن، وعن جلسات الحسين والسيدة زينب، وحفلات الأوبرا وساقية الصاوي، والفرق الموسيقية الجديدة، ومحمود حميده وهو يلقي أشعار فؤاد حداد، ووجيه عزيز وعلى سلامة ، وعم جمال بخيت وأشعاره المعجونة بحب البلد، وشادي عيسي وصنية حلوانى الدمياطي، اللي نصها بسبوسة ونصها التاني كنافة بالقشطة، وإفطار محمد منير السنوي، و مئات من الأصدقاء والأماكن التي ما أن يبدأ رمضان حتى توزع نفسك بينهم وعليها، والتى تكتشف في النهاية، أنك بين ناس زي العسل، وشعب لن تجده مثله، حتى لو عشت مئات السنين وذهبت الى أجمل بلاد العالم، فلن تجد أفضل من بلدنا وناس بلدنا. [email protected]