لا أعرف الراحل اللواء أحمد رأفت نائب رئيس جهاز مباحث أمن الدولة معرفة شخصية ، ولم يسبق لي أن قابلته في أي مناسبة ، لكني كنت أسمع عنه الكثير من خلال قيادات الجماعة الإسلامية الذين خرجوا من السجون خلال السنوات الأخيرة بعد رحلة سجن واعتقال وصلت إلى ربع قرن عند بعضهم ، وكنت أندهش جدا من ذلك الحب والاحترام الذي يكنونه بصدق بالغ لتلك الشخصية ، على الرغم من الصراع التقليدي بين معارض إسلامي والمؤسسة الأمنية ورجالها ، لم أشعر أبدا أنهم يتكلمون عنه برهبة أو خوف ، كضابط مباحث ، وإنما باحترام حقيقي وتقدير لشخصه وود صادق ، لم يكونوا يتحدثون عنه باسمه الذي عرفناه فيما بعد ، وإنما دائما يقولون : الحاج ، وأحيانا الحاج مصطفى رفعت ، وهو الاسم الكودي الذي عرف به ، وعندما توفي فجأة الأسبوع الماضي فوجئت بمقالات عديدة ترثيه أحيانا ببكائيات مثيرة ، والحقيقة أن هذا المشهد يحتاج إلى تأمل حقيقي ، ليس لشخص الرجل فقد أفضى لما قدم الآن ، وانتهى نفوذه وانطفأ بريقه واختفت هيبته ، ولكن لطبيعة الدور الذي قام به ، والسلوك الأمني الذي اختاره ، وهو الدور والسلوك الذي يمكن أن يبقى من بعده ، وأن يقوم به تلاميذه وأبناء مدرسته في ذلك الجهاز الأكثر حساسية في وزارة الداخلية ، أحمد رأفت هو القيادة الأمنية التي نجحت في إنهاء مسلسل العنف الديني المنظم في مصر بعد أن أشعل الكثير من الحرائق في بر مصر من شمالها إلى جنوبها ، وراح ضحيته المئات وربما الآلاف من الشباب الإسلامي ومن رجال الأمن أيضا ، وأضر بالاقتصاد المصري ضررا فادحا من خلال تدمير قطاع السياحة لعدة سنوات ، ناهيك عن الملف الضخم من المآسي الإنسانية التي نتجت عن تلك المواجهات من عشرات الآلاف من المعتقلين ومعها مئات الآلاف من الرجال والنساء والأطفال والأمهات والزوجات والآباء الذين عاشوا محنة الترحال خلف ذويهم في سجون مصر ومعتقلاتها هذا إن صادفوا حظا طيبا وعرفوا لهم مكانا ، إضافة إلى أكبر عدد من أحكام الإعدام في تاريخ مصر أساء كثيرا إلى سمعة النظام وخاصة في الملف الحقوقي ، كل هذا الظلام والدم نجح أحمد رأفت بهدوء شديد وبدون صخب وبدون دماء وبدون عنف في تفكيكه وإنهائه ، بكل ما فيه وكل ما يتعلق به ، استخدم الجهاز الأمني قبل ذلك مستويات من العنف غير مسبوقة داخل السجون وخارجها ، ورفع سقف المواجهة المسلحة ، ومع ذلك لم تنته المشكلة بل بدا أنها بلا أمل في نهاية ، حتى أتى ذلك الرجل الجسور وقدم رؤيته وحصل على الموافقة ليخوض عملية شديدة التعقيد والخطورة للوصول إلى "عقل" الجماعات الإسلامية وعواطفهم العميقة ، ويحللها ويستمع إليها ويسبر أغوارها ويصنع جسورا من التواصل الإنساني معها، ثم يصل إلى وضع مشروعه لحل المشكلة كلها من خلال الجماعات ذاتها ، وبجهود قياداتها ، كان هذا المشروع مغامرة شديدة الخطورة من رجل أمن ، غامر فيها بتاريخه المهني ، وأي خلل أو خطأ فيها كان من الممكن أن يكلفه مستقبله كله في وزارة الداخلية ، ولن يرحمه أحد وقتها أو يتسامح معه ، وكان كثيرون ينتظرون سقوطه أو فشله ، ولكنه كان يملك إصرارا غريبا على مشروعه ، وثقة مطلقة في نجاحه ، كان يخوض معركة نفسية وإعلامية مع متربصين بهذا الملف وخاصة من بعض السياسيين والصحف والأحزاب التي كانت "تسترزق" من إشعال حريق الفتنة واستمرار مسلسل العنف ، وكانت بعض صحف اليسار تحرض بصفة منتظمة ضد أي محاولة لإعادة السلم والهدوء إلى بر مصر ، من خلال العناوين الصارخة عن "صفقة" بين النظام وبين الجماعات ، وعن "رضوخ" الدولة لجماعات الإرهاب ، وغير ذلك من عناوين الإثارة ، وهذه الحملات تكون مرصودة من قبل مراجع سياسية قطعا ، وتثير قلقها وحيرتها ، وكل ذلك يضغط على صاحب "المغامرة" ، لأن كل هذا التحرش يريد إسقاطه وإسقاط مشروعه وإفشاله ، ولكنه وضع كل ذلك وراء ظهره واستمر في حواره مع قيادات الجماعات وتفكيك كل نقاط الخلاف والشك ، ومعالجة الآلام القديمة ، وإزالة مشاعر الثأر والكراهية ، وأطلق على مسؤوليته الكاملة سراح آلاف المعتقلين ، رغم أن الكثيرين شككوا في جدوى ذلك وحذروا من خطورته وأن هؤلاء "الإرهابيين" سيعودون إلى العنف ويعرضون الدولة وأمنها للخطر ، ولكنه كان واثقا من عمله ، ومن اتفاقه وكلمته مع قيادات الجماعة ، وبالفعل لم تحدث حادثة واحدة في طول البلاد وعرضها ، فتعززت الثقة بين رجل الأمن وبين قيادات الجماعة ، عندما التقى الطرفان على أرضية الوفاء للوطن ، والعمل من أجله ، وطرح ما هو "شخصي" جانبا ، وعندما أصبحت "كلمة الشرف" لها قدسية وحرمة ، لذلك كله نجح اللواء أحمد رأفت ، وكتب اسمه بحروف من نور في تاريخ مصر السياسي والأمني على حد سواء ، بل إن تجربته تدرس الآن في عواصم عربية عديدة تعاني من المشكلة ذاتها ، وأتصور أن بعد رحيله سيرفع الحرج عن نشر تفاصيل كثيرة قد تكون مفاجئة للمهتمين بهذا الملف الذي يشغل العالم كله وليس مصر فقط ، والخلاصة من تلك التجربة ، أنها كشفت عن أن نجاح رجل الأمن خاصة في الشأن الديني والسياسي يمكن أن يثمر عن طريق الحوار والفهم والثقة والذكاء الإنساني ، أكثر كثيرا مما يمكن تصوره عن طريق القمع والعنف والتعسف في استخدام السلطة ، رحمه الله . [email protected]