أمس ألحت بعض الرسائل التي وردتني على الايميل أن أشرح نظام "الجملوكية" الذي ابتكره الدكتور سعد الدين ابراهيم وتحدثت عنه في مقالي السابق مكتفيا بأنها خليط بين الجمهورية والملكية بصيغة معينة. المقال الذي نشرناه كموضوع غلاف في مجلة "المجلة" اللندنية في يونيو 2000 بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد كان ساخرا في الأساس من نظم الجمهوريات العربية التي تحولت فعليا إلى ملكيات، ولم يكن يقدم نظاما دستوريا بديلا. وهنا أعود إلى مقال نشره الدكتور سعد في العام الماضي عن هذه الواقعة التي يصر – كما ذكرت أمس – على أنها أودت به إلى السجن. يقول: أبدأ بتعريف مُصطلح "الجملوكية". فهي كلمة هجينية، جديدة، لا توجد فى لُغتنا العربية، ولا أى لُغة أخرى. وقد قمنا نحن بتركيبها، من كلمتى «جمهورية» و«ملكية». وهما كلمتان معروفتان لأنظمة حُكم، إما وراثية (فتكون ملكية)، وإما مُنتخبة شعبياً كل عدة سنوات (فتكون جمهورية، لدور الجمهور فى اختيارها). وهى أشكال حُكم كانت معروفة عندنا مصرياً وعربياً وعند بقية العالم إلى عام 2000. أما ما لم يكن معروفاً إلى حينه (2000) فهو أن يبدأ النظام «جمهورياً» فى الدستور، وعلى الورق، ثم يتحول فى الواقع وبالخديعة إلى حُكم ملكى وراثى. وحينما طلبت منى إحدى الفضائيات العربية أن أكون مُعلقاً على جنازة الرئيس السورى حافظ الأسد، عام 2000، وسألنى أحد المشاهدين من باريس، عمن سيخلف الرجل، أجبت، "يبدو لى واضحاً، أن الخليفة سيكون ابنه بشار". سألنى مُشاهد آخر، كيف لمثل هذا الابن أن يُخلف أباه فى الرئاسة، وهو لا يشغل أى موقع رسمى فى الدولة السورية، ثم إن الدستور السورى يشترط ألا يقل عُمر المُرشح للرئاسة عن أربعين عاماً، بينما الولد بشار الأسد كان عُمره وقتها أربعة وثلاثين فقط، وكانت إجابتى أن الدستور يُمكن تعديله على عجل، لترتيب كل هذه الشكليات. وكان مُشاهد مُشاكس قد سألنى، من باريس، على فرض أن ما تنبأت به صدق بالفعل، فهل سيكون ذلك حالة استثنائية، أم "سابقة"، يمكن أن تتكرر فى بُلدان عربية أخرى؟ وأجبت بأنه يبدو لى أن جوهر ما سيحدث فى سوريا سيكون سابقة تتكرر فى بُلدان عربية أخرى مثل العراق، واليمن، وليبيا... فبادرنى نفس المُشاهد بسؤال ثالث: وما هو المُشترك بين هذه البُلدان الأربع؟ وكانت إجابتى هى أن أى بلد، حتى لو كان نظامه جمهورياً، ولكن ظل يحكمها نفس الرئيس لعشر سنوات أو أكثر، فإنه يتعمق فى قلبه وعقله أنه أصبح "مالكاً" فعلياً للبلاد. وكأى ملكية خاصة مثل أى "عزبة" أو "ضيعة" فمن حقه أن يورّثها لذويه، فإذا كان من بين أفراد الأسرة ابن فوق الثلاثين، فإن نصيبه فى هذا الميراث هو رئاسة الجمهورية (إن رغب). فاجأنى مُشاهد لبنانى من باريس، وهو د. غسان سلامة، وكان يعرفنى شخصياً: يا أخ سعد الدين.. إنك فى كل ما ذكرت عن مسلسل التوريث، لم تذكر مصر، مع أن كل ما قلته عن العراق وسوريا واليمن وليبيا، ينطبق على مصر! فقلت على الهواء، يا د. غسان، "إن مصر تختلف، من حيث حجمها وتاريخها وهى دولة مؤسسات". ويبدو أن هذا الاشتباك على الهواء، كان من النوع الذى يُطرب له مُضيفنا فى هذا البرنامج، وكان هو الإعلامى القدير عماد أديب، فانضم بدوره إلى د. غسان سلامة، فى الإلحاح للإجابة عن الحالة المصرية... فأذعنت فى النهاية (يونيو 2000) بأن مسلسل التوريث يمكن أن يحدث فى مصر أيضاًز وسألنى مُشاهد آخر من تونس: "وبماذا تسمى هذه المُمارسة العربية فى توريث السُلطة فى بُلدان جمهورية؟" فقلت بعفوية، دعنا نسميها (جملوكية.. أى نصف جمهورية، ونصف ملكية.. جملوكية على وزن ملوخية". سأل نفس المُشاهد التونسى، "وماذا عن بلدى تونس؟" قلت: "من حُسن حظكم فى تونس أن الرئيس زين العابدين بن على، ليس لديه أولاد ذكور إلى الآن (2000)"، وعلّق عماد أديب، "وربما لأن الملوخية ليست جزءاً من المطبخ التونسى!". وضحكنا. ويوضح الدكتور سعد الدين ابراهيم أنه في اليوم التالي طلبت منه مجلة "المجلة" أن يكون موضوع توريث السلطة في الجمهوريات العربية سبقا صحفيا لها وموضوعا للغلاف.. "فكتبت لهم موضوعاً عنوانه: الجملوكية.. إسهام العرب لعلم السياسة فى القرن الحادى والعشرين". وظهرت على الغلاف صورة ضابط وعلى رأسه تاج ملكى، وتناول الموضوع الحالات الخمس: العراق، وسوريا، واليمن، وليبيا، ومصر. وفى اليوم الذى ظهرت فيه مجلة المجلة، بغلافها، ومقالى "الجملوكية.. إسهام العرب لعلم السياسة فى القرن الحادى والعشرين".. ومع وصول أعدادها إلى السوق المصرية فى الصباح، واكتشاف الرقيب لمحتوى قصة الغلاف، سرعان ما اختفت نسخ مجلة المجلة من الأسواق المصرية مع الثانية عشرة ظهراً يوم الجمعة 30/6/2000. ومع مُنتصف ليلة نفس اليوم، أحاطت قوة أمنية قوامها مائتا مُسلح بالفيلا رقم 1 ميدان النصر، بحى المعادى، للقبض على كاتب هذا المقال (سعد الدين إبراهيم)، وبداية عشر سنوات من المُلاحقة والسجون والتنكيل والنفى خارج البلاد. كل هذا بسبب كلمتى الجملوكية والتوريث. هذا هو ما كتبه سعد الدين ابراهيم نفسه كتبه في العام الماضي (2009) وإذا كان لابد من التعليق هنا فهو بشأن قوله إن "المجلة" اختفت من السوق المصرية صباح اليوم التالي الجمعة بفعل الرقيب الذي اكتشف محتوى المقال، وهذا لم يحدث لأن عدد المجلة يتم فسحه إو إجازته من إدارة المطبوعات الأجنبية في وزارة الإعلام قبل توزيعه شأن أي مطبوعة تصدر وتطبع خارج مصر، وفي الأصل لا ينزل للأسواق قبل يوم السبت مع أنه يكون متوفرا في الأسواق الخليجية وخصوصا في السعودية يوم الخميس بعد طبعه يوم الأربعاء في مطابع الشركة السعودية للأبحاث والنشر بمدينة جدة في ذلك الوقت. وبالفعل تم توزيع العدد يوم السبت في الأسواق المصرية دون أي تدخل أو مصادرة وهذا الكلام أنا مسئول عنه بصفتي المعني مباشرة بمعرفة أي قرار مصادرة، وظل في الأسواق بصورة طبيعية طيلة الأيام التالية. [email protected]