من المجمع عليه بين كافة العلماء أن تحكيم الشريعة والدين في كافة شؤون المسلمين أصل من أصول الإيمان العظيمة، وأن الأدلة على ذلك متكاثرة جداً، وهي من الأدلة القطعية الثبوت والدلالة، ومنها: قوله تعالى موضحاً منهج أهل الإيمان هو السمع والطاعة لما جاءت به الرسل من الشرائع والأحكام: (آمن الرسول بما أنزل غليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا ) [البقرة:285]، وهذا السمع والطاعة هو مقتضى الإيمان، جاء في تفسير المنار للعلامة رشيد رضا: أي بلغنا فسمعنا القول سماع وعي وفهم، وأطعنا ما أمرنا فيه إطاعة انقياد وإذعان. وبين الله تعالى أهمية التحاكم للنبي صلى الله عليه وسلم ولما جاء به الأحكام والشرائع، فقال: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما) [النساء:65]، قال في تفسير المنار: أقسم تعالى بأن أولئك الذين رغبوا عن التحاكم إليه -صلى الله عليه وسلم- وأمثالهم، وهم من المنافقين الذين يزعمون الإيمان زعماً ..لا يؤمنون إيماناً صحيحاً حقيقياً إلا بثلاث: الأولى أن يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم في القضايا التي يختصمون فيها، الثانية تذعن نفوسهم لقضاء وحكم النبي صلى الله عليه وسلم، بحيث لا يكون فيها ضيق ولا امتعاض من قبوله والعمل به، الثالثة الإنقياد بالفعل وينفذه طوعاً. (باختصار). وبين لنا الله عز وجل أن غاية إنزال القرآن الكريم هو أن يكون هداية وحكم ومرجع للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده في قضايا الناس كلهم، فقال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) [النساء: 105]، نقل رشيد رضا في تفسير المنار عن الأستاذ محمد عبده قوله: " حتم الله التحاكم إليه – صلى الله عليه وسلم- وأمر بطاعته فيما يحكم ويأمر به". ولأهمية وضرورة التحاكم للشريعة التي جاء بها القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم أكد الله عز وجل على ذلك في آيات أخرى منها قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله) [المائدة: 48]. وجعل الله عز وجل تحاكم الناس للشريعة والقرآن والسنة علامة الإيمان بل جعله من أصول الإيمان، قال تعالى: ( يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله ورسوله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الأخر) [النساء: 59]، ونقل رشيد رضا عن الشيخ محمد عبده قوله في تفسير الآية: "أمر بطاعة الله وهي العمل بكتابه العزيز وبطاعة الرسول لأنه هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم، وقد أعاد لفظ الطاعة لتأكيد طاعة الرسول، لأن دين الإسلام دين توحيد محض لا يجعل لغير الله أمراٍ، ولا نهياً، ولا تشريعاً، ولا تأثيراً". وكرر الله عز وجل هذا المعنى في أيات أخرى منها قوله تعالى: ( ويقولون أمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين * وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) [النور: 47- 48]، وقوله تعالى: ( إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) [النور: 51]، وقوله تعالى: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً) [المائدة:50]، قال في تفسير المنار: "يوجد بين المسلمين في هذا العصر من هم أشد فساداً في دينهم وأخلاقهم من اولئك الذين نزلت فيهم هذه الآيات، ومن ذلك أنهم يرغبون عن حكم الله إلى حكم غيره، ويرون أن استقلال البشر بوضع الشرائع خير من شرع الله تعالى". ويفسر الشيخ محمد أبو زهرة هذه الآية في كتابه «زهرة التفاسير» فيقول: " إن من يتبنى حكم العقل والقسطاس لا يمكن أن يتولى عن حكم القرآن، إنما يتولى عن حكم القرآن من يريد حكم الهوى والشهوة، وحكم العقل وحكم الشهوة نقيضان لا يجتمعان… وإنه لا وسط بين حكم الجاهلية وحكم القرآن؟ لأن حكم القرآن هو العدل وهو النظام، وهو المساواة في الحقوق والواجبات لا يعفى من حكمه شريف، ولا حاكم، وليس فيه من ذاته مصونة لا تمس، بل الجميع أمام الله تعالى على سواء. وأما حكم غير القرآن ففيه التفاوت بالطبقات، وفيه السيطرة التي لا يسوغها منطق ولا عدل، ولا نظام، وفيه أكل أموال الناس بالباطل، كالربا، وسائر أنواع السحت، وقد قال بعض التابعين: «من حكم بغير الله فهو حكم الجاهلية». وقد جاء في التفسير الأثري لابن كثير المحدث والمؤرخ ما نصه: «…ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، كما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم (الياسق) » اه. وما أشبه «الياسق» الذي وضعه جنكيزخان ب«قانون نابليون» وما جاء بعده من قوانيننا» أ.ه من تفسير أبو زهرة. ويؤكد شيخ الأزهر الأسبق الدكتور محمد طنطاوى على وجوب تجكيم الشريعة فيقول في تفسيره (الوسيط) عند قوله تعالى (أفحكم الجاهلية يبغون): "والمعنى: أينصرفون عن حكمك بما أنزل الله ويعرضون عنه فيبغون حكم الجاهلية مع أن ما أنزله الله إليك من قرآن فيه الأحكام العادلة التي ترضى كل ذي عقل سليم، ومنطق قويم. إذ أن التولي عن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حكم آخر منكر عجيب. وطلب حكم الجاهلية أقبح وأعجب، والمراد بالجاهلية: الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى، والمداهنة في الأحكام … وقوله تعالى (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) إنكار منه- سبحانه- لأن يكون هناك حكم أحسن من حكمه أو مساو له، أي: لا أحد أحسن حكما من حكم الله- تعالى- عند قوم يوقنون بصحة دينه، ويذعنون لتكاليف شريعته، ويقرون بوحدانيته، ويتبعون أنبياءه ورسله، ومفعول (يوقنون) محذوف أي لقوم يوقنون بحكمه وأنه أعدل الأحكام… هذا، وقد شدد الإمام ابن كثير النكير على الذي يرغبون عن حكم الله إلى أحكام من عند البشر، ووصف من يفعل ذلك بالكفر، وأفتى بوجوب مقاتلته حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله" أ.ه