نشرت " المصريون الموقرة مقالا بعنوان " نحو مراجعة إخوانية " ووعدت القارئ الكريم أن أستكمل هذه السلسلة على حلقات, إلا أنه قد طرأ طارئ يتطلب تأجيل نشر هذه السلسلة, ولذلك أجد لزاما على أن أتوجه بالاعتذار لجريدة " المصريون " وقارئها الكريم , دون الخوض في التفاصيل, لكنني أود أن أقول إننى أظن أنه من الأهمية للكاتب أن يستشعر (بقدر ما ) أنه ثمة مردود لما يكتبه, تفاديا لما قد يُتهم به المرء من سعي لشهرة أو إثبات لذات, وأحسب أنه لكي يكون للكتابة مردودا, فأرى أن يتوفر لها ثقافة مجتمعية تقبل بالاختلاف, وتقبل بالعلانية, وتنظر للموضوع لا لشخص قائله, والتخلص من النظرة الاستباقية المُعدة سلفا للقبول أو الرفض, ثم الإقرار بأن الأمور ليست على ما يرام , مع توافر إرادة جدية للتغيير والتطوير,وأحسب أن توفر ذلك كله يتطلب جهدا أوليا, وأظن أن تمهيد الأرض يسبق السير عليها.. أهمية وضرورة المراجعة في كتابه القيم " مراجعات في الفكر والدعوة والحركة" للأستاذ عمر عبيد حسنة" ,وضع منبهات على الطريق بُغية لفت نظر رواد الحركة الإسلامية إلى ترتيب وقفة حاسمة لمراجعة المواقف وإعادة تشكيل العقلية لإعداد العدة للعمل في القرن ال 21 ,فقدم المؤلف لكتابه بأهمية المراجعة والتقييم في أداء مهمة الاستخلاف الإنساني، وأكد اعتقاده بأن النقد والمراجعة مؤشر صحة ودليل خلود كامن في قدرة الأمة على التجدد والتصويب وأنه منهج قرآني وتطبيق نبوي حيث كانت بعض الاجتهادات في مواقف النبوة محلا لتصويب الوحي وعتابه وتنبيهه لتكون وسائل إيضاح لإدراك الأمة,ثم أوضح أن غياب المراجعة والتستر على الأخطاء نكوص عن حسبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تميزت بها هذه الأمة. وعندما نشرت " المصريون" الموقرة الحلقة الاولي من هذه السلسلة , فقد تواردت ردود أفعال مؤيدة ورافضة, وهذا طبيعي, ولا أحسب أن هذه الدعوة للمراجعة جديدة, فقد تماس بعض الغيورين مع قضية المراجعة بلمسات خفيفة تفاديا لفتح جروح مغلقة, وزهد آخرون عن إعلانها وإن ترددت في مجالسهم , وتضايق آخرون انغلاقا ، وقد أضفى بعض العاملين في الحركة الإسلامية قدرا من القدسية على مناهج وأفكار الحركة, وإن لم يقل بهذه القدسية أحد إلا أن الممارسة أثبتت ذلك. تفرغ القيادة للقيادة لا للإدارة. إن ما أحسبه من أهم المعوقات التي تقف عائقا أمام المراجعة المطلوبة للحركة الإسلامية المعاصرة , هو انشغال قيادة الحركة بتسيير الأعمال اليومية, وما يستجد منها يوما بعد يوم , ولذلك لا يتسع الوقت للنظر في تطوير الحركة الإسلامية لتواكب الزمان والمكان والحال , ففي مقال بعنوان :حركة التوحيد والإصلاح: الحلقات المنجزة والأبعاد الغائبة – موقع مغرس المغربي – يستعرض ماتم إنجازه وما لم يتم, ( وأجده انتصافا وصدقا),وقد جاء فيه ما يلي : [ لم يكن من الممكن إنجاز ماتم لولا أن الحركة تجاوزت منطق القيادة الحكيمة التي تعرف كل شيء ولها القدرة على ضبط كل شيء وهي الوحيدة المخولة في الحسم كل شيء., وقد تحقق اجتهاد تنظيمي انطلق من فكرة بسيطة ترى أن تركيز النظر في كل القضايا والحيثيات لا يسمح للقيادة بالانصراف إلى القضايا الاستراتيجية، وأن تضخم الجزئيات ومتطلبات العمل اليومي على أجندة قيادة الحركة لا يسمح لها البتة بالنظر في آفاق رحبة للعمل الإسلامي. اجتهاد تنظيمي أسس لفكرة الوحدة على عناصر المشروع وتخصص قيادات من الحركة لمناشط من العمل، وتفرغ قيادة الحركة للقضايا الكبرى والعناوين الاستراتيجية. اجتهاد تنظيمي سمح بتشكيل العديد من المؤسسات المستقلة تنظيميا عن الحركة والمرتبطة (من حيث المشروع) مع عناوينها الاستراتيجية. اجتهاد تنظيمي لم يحرر قيادات الحركة فقط من الانخراط الكلي في الجزئي والانغماس في حل الإشكالات البسيطة التي يمكن أن تحصل لأبسط حلقة من حلقات التنظيم، وإنما مكنها أيضا من رسم خريطة تحالفات جديدة مع مكونات في المجتمع السياسي والمدني لم يكن من الممكن أن تصل إليها الحركة المشتغلة بمنطق مركزي، هذا فضلا عن انخراط العديد من شرائح المجتمع في هذه التخصصات، وهو ما لم يكن متصورا لو بقيت الحركة تشتغل بالأدوات التنظيمية التقليدية] وأحسب أن هذا الاجتهاد قد حرر الحركة في المغرب من قيود عديدة مكنها من النظر ثم العمل, فكم كتب كاتب ليستنهض قادة الحركة الإسلامية المعاصرة على إجراء مراجعة وتقييم, وصدرت كتب ومقالات تحمل آراءً معتبرة, لم يتسن لأحد الاستفادة منها, ولا أحسب أن ذلك كان متعمدا, لكنه لم يتسن الوقت المناسب لذلك في ظل الشواغل اليومية, وقد استمعت لحديث لعمرو موسى امين عام الجامعة العربية, وهو يقول إنه (نظرا لشواغله) يقرأ كتاب في سنة!! , فكيف إذن يتمكن الرجل التنفيذي من تلقي الأفكار فضلا عن العمل بالمُعتبر منها ؟ علانية الأفكار والأراء لقد عتب بعض الإخوان على نشر مثل هذه المقالات ويرون ضرورة قصرها على الأطر التنظيمية, وإذ أتفهم ذلك واحترمه, لكنني لا اعتقد بصحة ذلك, ولا أحسبه عمليا, لأن العقل المشغول بتسيير دولاب العمل اليومي لن يتمكن البتة من النظر في مثل هذه القضايا, فكم ظهرت كتب ودراسات ومقالات واقتراحات لم تلق أي صدى, بل إن هذه السلسلة نفسها أرسلت للدكتور محمد حبيب منذ سنتين, وأقرُ أنه نظر بها وناقش بعضا مما جاء فيها, لكن الأحداث اليومية تداهمنا, وتأتي بالجديد الذي ينشغل به المرء,.. كما تجدد إرسالها للدكتور بديع مؤخرا, لكنني بصدق وتفهم كامل أشفق عليهم جميعا, إذ أحسب أنه من الصعوبة بمكان توفر سعة من الوقت تمكنهم من المدارسة الهادئة لكثير مما يُطرح بخصوص تطوير المشروع الإسلامي الحركي, لذك فإنني أحسب أن فصل القيادة عن الإدارة يتيح للإدارة تسيير دولاب العمل اليومي , بينما تتفرغ القيادة للقضايا الاستراتيجية, وهذا ما أنجزته بنجاح حركة التوحيد والإصلاح المغربية. كما أن نشر الأفكار وطرحها للتداول من شأنه أن يوفر ( الاختبار الملائم لها ), مثل التجارب التي تستلزم أن تُختبر في المعمل ,أو الأسلحة التي تتطلب أن تُختبر في الميدان, قبولا لها أو رفضا, فإما أن يتحقق زخما لها يساندها, وإما أن يتحقق رفضا لها يدحضها , وقد يتبلور رأيا جديدا مُستلهما منها, ولن يتأتي أي إنضاج لأي فكرة إذا ما ظلت في أروقة ضيقة وحُرمت من نقاش علني حر. إننا نعتز بقرآننا الذي نتعبد بتلاوته, وقد أعلم الله سبحانه وتعالى البشر بحوار من المللك القدير سبحانه مع ملائكته!! : وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ (30) البقرة والشاهد أن الله سبحانه سمح بهذا الحوار العلني , بل لم يكتف الله سبحانه بذلك, بل قدم ( سبحانه) لهم الدليل العملي على أحقية الإنسان بالخلافة على الأرض, كما حمل لنا القرآن عتابا لنبيه في أكثر من موضع ( النساء - التوبه - عبس ) , وهو عتابا معلنا, لا يقلل من شأن النبي صلى الله عليه وسلم , فهو أحب الخلق الى الله, لكنه تعليما للأمة بأسرها في كل زمان ومكان, وقد حملت لنا السيرة المطهرة مواقف عديدة , وحمل تاريخ الإخوان في الاربعينات انتقادا للجماعة على صفحات مجلة النذير التي يصدرها الإخوان وكذلك مجلة الإخوان نصف الشهرية, وكما ذكر فضيلة الشيخ عصام تليمة في مقاله القيم ( حسن البنا : رائد النقد الذاتي) أن البنا ( رحمه الله ) خصص صفحة كاملة في مجلة (الإخوان المسلمين) نصف الشهرية، جعل عنوانها: باب النقد، وكان غالبا يكتب فيها الشيخ محمد الحامد الحموي نقدا على ما ينشر في المجلة، ونقد فيها رمزين كبيرين من رموز الإخوان: حسن البنا، ومحمد الغزالي. بل وصل الأمر بأحد المنتقدين لحسن البنا أن أرسل له نقدا في صورة سؤال، وكان السؤال كالتالي: يا شيخ حسن أنت رجل مدرس، ونحن نعلم مرتب المدرس جيدا، ونعلم أنك لا تتقاضى راتبا على عملك الدعوي، ومع ذلك نراك أنيقا في ملبسك، أنيقا في مظهرك، فمن أين لك هذا وأنت رجل مدرس بسيط؟! ومع ذلك نشر حسن البنا سؤال السائل الناقد، ووعدت المجلة بالإجابة في العدد القادم، وأجاب حسن البنا بما يلي: نعم صدقت يا أخي أنا لا أتقاضى راتبا على عملي الدعوي، أما ما لاحظته من أناقة المظهر وغيره وأن راتبي لا يكفي فهو صدق، وكان صلى الله عليه وسلم ينفق من مال خديجة، وأنا أنفق من مال أخي خديجة (يقصد صهره)، ولي أخوان يقرضانني دائما، وأعرض عليك ثلاثة حلول: أن تزورني في المركز العام للإخوان المسلمين، وأطلعك على اسم الأخوين الكريمين، وإما أن تسدد لهما ديوني عندهما، وبذلك أصبح مدينا لشخص واحد، أو أن تكون الثالث الذي أقترض منه عند الحاجة، أو أن تدعو الله تعالي لي بأن يسدد عني. وقد فكرت في سبيل لتحسين حالتي المادية، وسوف أصدر بإذن الله مجلة (الشهاب) بترخيص شخصي لي؛ لعلها بذلك تكون سببا من أسباب الدنيا في تحسين وضعي. وجزاك الله خيرا. أخوك: حسن البنا. وفي مجلة النذير كتب الإمام البنا مقالا بعنوان (كشف الحساب.. ما علينا، ما لنا، ما يجب أن نفعله) فبين ما عليهم كجماعة وكأمة أن يفعلوه ولم ينجحوا بعد في أداء هذه المهمة, ولننظر الى التشابه مع عنوان المقال الخاص بحركة التوحيد والإصلاح المغربية (الحلقات المنجزة والأبعاد الغائبة)!! بل قام د. محمد فتحي عثمان ، بكتابة مقالات نقدية ذاتية، وقد كان أوكل إليه الأستاذ البنا مسؤولية صفحة من صفحات مجلة الإخوان النصف شهرية، فكتب مقالا ينقد فيه بعض عيوب في قسم الطلبة، وقد كان مسؤولا عنه آنذاك الأستاذ فريد عبد الخالق. وعندما كتب الدكتور عبد العزيز كامل مقالا بعنوان: (مهندسو السطوح ومهندسو القاع) يمجد فيه رجال التنظيم الخاص أنفسهم بأنهم مهندسو القاع، والعمق، ولهم أهمية كبيرة، تفوق أهمية مهندسي السطوح، ويشير بمهندسي السطوح إلى عموم الإخوان في الدعوة، فقام ورد عليه محمد فتحي عثمان، بمقال مطول في مجلة الإخوان أيضا.. الغريب أن هذا المناخ الرائع قد مضى عليه أكثر من ستين سنة ( أكرر 60 سنة !! ), وكان المتصور بداهة أن نكون اليوم أكثر قبولا وانفتاحا عما كان بالأمس!! بقيت نقطة في هذه القضية وهي: إن قبول الإسلاميين للنقد والنصح في أمورهم العامة فيما بينهم بشكل علني ( لأنه يختلف عن آداب النصح لتقويم المثالب الشخصية التي تتطلب الخصوصية والستر والكتمان) من شأنه أن يشيع حالة الثقة والإطمئنان في المجتمع للمشروع الإسلامي وأصحابه, وأنهم حال حيازتهم ثقة الشعب فلن يكسروا قلما, ولن يحجروا رأيا, إذ قدموا الدليل والبرهان والنموذج والقدوة على ذلك فيما بينهم.. وأخيرا: إن الإسلاميين باعتبارهم من دعاة العمل المدني العلني وليس العسكري أو السري , فليس لديهم ما يخفونه أو يخجلون من مناقشته, بعد أن أصبح وجودهم وكتبهم وأفكارهم وشخصوهم عامة ومن ثم شأنهم كله. بيد يدي المراجعة حال العودة إليها أحسب أنه حال توافر الظروف والأرضية اللازمة لقبول المراجعة , فإن واحدة من أهم القضايا المطروحةهي النظر في اجتهادات جرت على ساحة العمل الوطني والقومي والإسلامي , ومنها على سبيل المثال الاجتهاد الذي قامت به حركة التوحيد والإصلاح المغربية ( كما ذُكر على موقع مغرس) ويعتبرونه أكبر اجتهاد قامت به على هذا المستوى، وهو إرساء فكرة التخصصات, والاجتهاد في تحديد وظائف جديدة للحركة والتمييز بين ما هو دعوي وسياسي، ( أولنقل : التمييز بين ما هو دعوي وحزبي, كما أوضح الدكتور عبد المنعم ابو الفتوح) وهو اجتهاد لم يصل العقل الحركي في العديد من أقطار العالم العربي إلى مجرد طرحه فضلا عن تأسيس أطروحته واعتمادها كخارطة طريق لرسم حدود العلاقة بين الحزب والحركة في المشروع الحركي الإسلامي. وختاما : أكرر شكري للقارئ الكريم واعتذاري عن استكمال المراجعة في الوقت الراهن حتى يتهيأ المناخ المناسب لكي يكون للكتابة قبولا ومردودا.. [email protected]