ربما أخاصم أحدهم وأتعارك معه ، وربما تتطور الأمور للمنازلة بالأيدي والضربات واللطمات وتمزيق الملابس..ربما يحدث هذا كله ويصدر مني ..إلا أنني أبداً لا أستطيع أن أوجه لخصمي ما يجرح مشاعره ، قد تعتقد أني مبالغ في هذا ، لكنها الحقيقية التي أعلمها عن نفسي، فأنا لا أطيق أن أحزن أي نفس أو أعيرها كما يفعل البعض بنقص فيها أو عيب طٌبعت عليه. وفي تراثنا الإسلامي رجال مُلئت قلوبهم بالرقة والإحساس ومراعاة مشاعر الآخرين وإيجاد الأعذار لهم وتحمل تصرفاتهم..وكم أقف مُكِبراً ومعظماً لهذا الخلق الراقي الذي تحلى به (قتيبة بن مسلم) ، ذلك الفاتح الشهير والقائد المعروف في تاريخنا .. الذي وصلت فتوحاته للصين . ففي بعض ولايته وفد عليه أعرابي ذات يوم يشكو من غريم له، وكان الأعرابي ضعيف البصر.. فوقف وهو متكئ على سيفه كعادة العرب حينئذ، ثم شرع يسرد شكواه، والغريب أن سيف الشاكي كان مستقراً على قدم الوالي ، فجرحه وسال الدم منه. ولما فرغ الرجل من عرضه لقضيته، طلب الوالي ما يجفف به دمهُ ، فقيل له: أفلا نبهت الرجل فقال: خفت أن أذكره بضعف بصره. فقيل له: أفلا نحيت قدمك بعيداً عن السيف؟ فقال الوالى: أخاف أن أقطع على الرجل كلامه فأذكره بعلته. فيا له من ذوق رفيعٍ وأدبٍ جم . .خاف أن يجرح مشاعر الرجل، فيذكره بعلته فيحزن نفسه..أين هذا من هؤلاء الذين يعيرون الناس بعيوبهم التي قدرها الله فيهم دونما التفات إلى مشاعرهم وأحاسيسهم؟!! وهكذا المسلمون في أخلاقهم .. على استعدادٍ لأن تسيل دماؤهم ولا يجرحون من حولهم. أخشى ما أخشاه أن تفرض عليّ الظروف والأقدار صحبة شخص حساس.. فهؤلاء لا أستطيع صحبتهم، وأعاني منهم ففي معرض كلماتي وحركاتي البسيطة اليسيرة التي تنطلق من طبيعتي العفوية التي لا ألقي لها بالاً، أجد أن الإخوة الحساسين قد نصبوا لها تفسيرات صادمة، سبح فيها خيالهم المأفون..وحينما يكاشفونني بما يظنون.. أكاد أُجن من العجب وأضرب كفاً على كف مما تصوروه، إذ كيف سولت لهم أنفسهم أن يتخيلوا هذه المسالك الوعرة التي لم تجل بخاطري. ..هناك أناس حساسون لدرجة المرض ، وقد قابلت أحدهم يوماً وهو يمت لي بصلة قرابة.. أي لا مفر من التعامل معه ..لم أفطن لهوسه في البداية إلا بعد موقف مزعج مؤلم.. إنه يشبه هؤلاء الأدباء أصحاب الخيال الواسع ، حينما يجلسون على أريكتهم ويسبح خيالهم وتهيم ظنونهم ، فيؤلفون رواية أو قصة أدبية ، إن صاحبنا يُؤلف الأحداث وفق ما يتوهمه، حتى يُخيل إليك أنه يعلم الغيب ويطلع على المستور، أو أن هناك جناً يتعامل معه ويخبره بما خفي عليه ..كلما حدث موقف بدأ موتور العقل يلف دورته التأليفية، لينسج قصة جديدة ، وبالطبع لا تقوم محاور قصته ومنسوجها على الخير وحسن الظن ، وإنما كلها شر في شر ، وبلاء في بلاء.. وهنا لا يداهمك إلا إحساس كبير بأنك قد ظُلمت، وأنك مثل هذا البريء الذي حكم عليه ظلماً ولا سبيل إلى إثبات براءته..بل ومن الطامة لدى هؤلاء أنهم يتسنفون فإذا حاولت شرح قصدك ونيتك، وحاولت دفع ظنونهم عنك وإثبات براءتك ، فإنهم لا يصدقونك ، ولا يحبون أن يصدقونك ، ويصعب عليهم أن يتخلوا عن هذا الإبداع الذي توصلت إليه خيالاتهم وظنونهم العبقرية ..وربما يتهمونك في هذه المحاولة بأنك تريد أن تقول إنهم لا يفهمون ، فيضيفون تهمة أخرى لا تستطيع تبريرها والاعتذار عنها.. العقاد رحمه الله بلغت به الحساسية مبلغها ..كان الرجل حساساً تجاه نفسه فلا يقبل لها إهانة أو ازدراء مهما كان ضئيلاً يسيراً أو حتى بمجرد التلميح التعريض وإذا ما أراد أحد أن ينال من العقاد ويثير غضبه فعليه أن يقلل من ذاته ..ليفاجأ بعاصفة مدوية وكسفاً تتساقط عليه من السماء ،لا يلومن بعدها إلا نفسه..إنها كرامة العقاد التي إذا أردت أن تهلك نفسك، فعليك أن تمسها مهما كان قدرك ومنصبك وسلطانك .. يحكي الأستاذ أنيس منصور في كتابة (عاشوا حياتي) أن أحد الفلاسفة الفرنسيين زاروا مصر فلما علمت بنبأ وصوله أجريت معه حواراً صحفياً وكان مما سألته فيه : هل تعرف العقاد؟ فأجاب الرجل : لا. وغاب عني أن هذا السؤال وهذه الإجابة قد تغضب العقاد غضباً عنيفاً ..وهو ما حدث حينما نشر اللقاء وقرأه العقاد..الذي أتبعه بمقال كتب فيه: "هب أن الشمس طالعة وجئت إلى أعمى وسألته عنها فقال: لا أراها.. فهل معنى ذلك أنها غير طالعة؟ لا إنها طالعة ولكنه هو أعمى.." وذات يوم وفي جلسة بالمجمع اللغوي جلس إليه أحد علماء الزيولوجيا (علم الحيوان) وكان يردد ن حين لآخر هذه الكلمة كلما أراد أن يقول شيئاً: "عندنا في الزيولوجيا"! ففوتها العقاد مرة فلما كررها انفجرت براكين الغضب، وقال بثورة هائلة : عندكم يعني إيه يا .. هل تريد أن تقول إنني لا أفهم أحسن منك في الزيولوجيا!! هو لم يقصد أن يُهين العقاد ..لكن حديثه جرى بحماس فأغفل حساسية الكاتب العظيم، وفات عليه أن ما يجري مع العامة والبسطاء، لا يجري مع العظماء والعباقرة. وهذا اللون من الناس أخافه وأحذره ولا أنسجم معه، حتى ولو كان من العباقرة والعظماء كالأستاذ العقاد ..فأنا أحب أن أنطلق في حديثي بلا قيود وأصفاد تشعرني بالإرهاب، وأحب البساطة والأريحية والتواضع، وأحب أكثر أن يفترض محدثي في كلامي حسن النية وسلامة المقصد ، فلا يشرد بذهنه هنا أو هناك، وعن نفسي فلا أدخر وسعاً في توفير الإحترام والتقدير الكامل ..وغالب ظني أن هذه الحساسية من أمراض النفوس التي يجب أن يتخلى عنها أصحابها تدريجياً ..عليهم أن يحسنوا الظن دائماً فيما يقال حولهم.. ويتمثلوا دوماً قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تظن بكلمة خرجت من فم أخيك إلا صدقاً ما دمت تجد لها في الخير محملاً"