حديث السلطة في مصر يأتي دوما من منطلق أنها تقول الكلام الصحيح، وأنها تقف في المكان السليم، وأن الحق إلى جانبها. ببساطة هي تدعي أنها تملك الحقيقة المطلقة. وهذه آفة السلطة في مصر في كل عهد، كما أنها آفة المعارضة والنخب والمواطنين أيضا، فالأب في البيت، والمدرس في الفصل، والإمام في المسجد ،والرئيس في العمل، والكبير في السن، يزعم كل واحد منهم أنه يمتلك وحده الحق، وغيره على ضلال، وبالتالي يجب الانصياع لهم. لا أحد في هذا الكون قديما أو حديثا يمتلك الحق والحقيقة إلا الله الحق وحده لا شريك له، وأما البشر - باستثناء الرسل والأنبياء - فهم غير معصومين، يصيبون ويخطئون ،كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون، لكن من يعي ويفهم ويكون حكيما ليعيش سعيدا. في الغرب الديمقراطي لا تجد في منظومة الحكم أو المعارضة من يزعم أنه الصواب المطلق، وغيره الباطل المطلق، وكذلك في طبقات المجتمع المختلفة، إنه التواضع الرائع ، والفضل في ذلك يرجع إلى عقلية الانفتاح، والتسامح، ونور العلم الذي يصغر أمامه أي غرور إنساني، والتفكير القائم على منهج التحليل والاستخلاص الرصين للنتائج، إنه المجتمع الحضاري بما تعنيه كلمة الحضارة من فكر وثقافة وعلم واجتهاد وتنوير وإبداع. هؤلاء القوم كلما ازدادوا علما ازدادوا تواضعا وتفاهما وتحاورا وتقاربا، فالعلم ينبههم إلى خطر ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة من دون البشر، بينما الجهل يجعل أمثالنا نتصور أنفسنا فوق البشر، في يميننا كل الحق، وغيرنا على الباطل. ما يحدث اليوم بين طرفي الأزمة في مصر هو نموذج حي لادعاء كل طرف أنه وحده على صواب، كل طرف ينفي الآخر، لا يريد الاعتراف بوجوده ولا حقوقه، كلمة أمام كلمة ، موقف أمام موقف ، صراع على من له الحق الحصري في امتلاك بلد اسمه مصر والتصرف فيه كيفما يشاء، هذا يحتكر الوطنية، وذاك خائن وعميل، إنه جوهر الفرعونية الذي لن تتخلص منه مصر بسهولة ، ولذلك تتعقد الأزمة، ولا تجد طريقا للحل، لا من الداخل، ولا بواسطة الخارج. تتحدث السلطة باسم الدولة المصرية، وهي لا تستند على قواعد راسخة في التحدث باسم الدولة، وتتحدث باسم الشعب، وهي غير منتخبة من الشعب، بل مفروضة عليه ، وهي باسم الدولة والشعب تمارس التصعيد المخيف في التهديد بسحق الخصم المعتصم في الميدان، وتتهم اعتصامه بأنه غير سلمي، وتحمله إخفاق كل الجهود الدبلوماسية عن التوصل للحل، توفر مجموعة معتبرة من الذرائع لارتكاب حماقات أخرى من منطلق أنها على صواب وترى مالا نراه، كيف يكون الخصم وحده متهما بالكلية بينما هي بريئة بالكلية؟، ألم نقل إنها تعتبر نفسها الحق المطلق، بينما الآخر هو الضلال المطلق؟، ألا تتحمل تلك السلطة النصيب الأكبر من المسئولية عن وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه، وفشل جهود الحل لأنها تريد فرض نفسها و شروطها وخريطتها دون أي تنازل أو نقاش؟!. أما الطرف الآخر فهو متشبث بكل مطالبه، لا يريد التزحزح عنها باعتبار أنه الشرعية التي تعطيه وحده امتلاك الحقيقة دون النظر لوجود متغير شعبي وسياسي وعسكري تحالف وفرض واقعا جديدا على الأرض، ورغم أنها حالة غير ديمقراطية إلا أنه يجب وضعها في الحسبان، فهذا التحالف له مؤيدين ، ويمتلك أدوات قمع ، ووراءه دعم من أطراف داخلية وخارجية، والطرف المعارض اليوم هو من سهل صنع ذلك التحالف بسلوكه غير الرشيد في الحكم في مواضع عديدة، فالخصم الضعيف عندما يتحد مع الضعفاء أمثاله يصيروا أقوياء، وهو جوهر فكرة الحرافيش في روايات نجيب محفوظ. لست مع التهديد من سلطة انقلابية لا تملك شرعية ديمقراطية ، ولست مع التصلب من سلطة معزولة تم إخراجها إلى الشارع لتكون معارضة، لابد من التنازلات المتساوية، التراجع خطوة هنا، مقابل خطوة هناك، نقطة هنا، ونقطة هناك، لا يمكن إلحاق هزيمة كاملة بطرف، وتحقيق طرف آخر نصرا كاملا. لا يجب أن تظل البلاد رهينة سلطة أكثر ارتباكا من سلطة مرسي وقد تقود البلاد في لحظة حماقة إلى حمامات دماء أخرى، ومن الخطر أن تتحكم فيها شهوانية متوحشة في سحق الخصم، أو تعتبر أنها امتلكت مصر أرضا وشعبا لتفعل فيهما ما تشاء، فهذا الخطأ الأعظم في مسارها المتخبط. كما لا يجب أن تظل البلاد رهينة لسلطة معزولة لم تنجح وأُخرجت نفسها من الحكم بضعفها وضآلة خبرتها وعقلها المنغلق والغفلة عندما تم استثمار أخطائها واللعب بها والتلاعب عليها للإطاحة بها. على المتشددين من الطرفين التنحي ليجلس العقلاء والمخلصين للتحدث بهدوء وبقلب خال من الضغينة أو الإقصاء لاتخاذ القرارات الحاسمة ولو كانت وفق تنازلات مؤلمة. ويجب أن يسبق ذلك كبادرة حسن نية من السلطة أن تفرج عن المعتقلين السياسيين، وأن توقف كل أشكال التنكيل والتكميم والإجراءات الاستثنائية بحق الإخوان وحلفائهم ، فلا نريد العودة إلى عصور وأجواء الخوف وسحق آدمية وكرامة المصري التي اسقطتها ثورة 25 يناير المجيدة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.