نفهم الغضب الذي تبديه السلطات الجديدة في مصر من الموقف الدولي تجاه انقلاب 3 يوليو بكونه تعبيرًا عن موقف متشنج مبعثه عدم الثقة في استحقاقها لموقعها وليست مغتصبة له.. جنوب إفريقيا دولة ديمقراطية تطبق معايير الحريات والحقوق الإنسانية بشكل كامل ولها سجل حافل من النضال في سبيل ذلك. هي أكثر الدول الإفريقية تقدمًا في جميع المجالات، لأن لا أحد فيها فوق الدستور، ولا يستطيع واحد من العسكر أو من البوليس أن يعطله بجرة قلم. إذا انتقدت هذه الدولة ما حدث في مصر ووصفته بأنه تغيير غير دستوري، فهي تنطلق من قيمها ومبادئها الراسخة. تقول الحقيقة التي لا مناص من الاعتراف بها والتأكيد عليها، فلا يوجد من يقول إنه تغيير دستوري فقد بدأ بتعطيل الدستور وأزاح مؤسسات قائمة عليه. لا يمكن إعطاء مشروعية اعتمادًا على مليونيات وصفتها صحيفة "الواشنطن بوست" بالوهمية، بقولها: "يجب على الإدارة الأمريكية أن تصر على أن إرادة الشعب المصري تقاس بنتائج الانتخابات وليس بالتقديرات الوهمية لأحجام الحشود الجماهيرية". غضب وزارة الخارجية المصرية من الموقف الجنوب إفريقي مثير للسخرية بسبب انفعاله المبالغ فيه، ثم معايرتهم باعتصام عمال المناجم، وهو أمر لا ينكرونه لأن الاعتصامات والمظاهرات السلمية لا تخلو منها الديمقراطيات الحقيقية ولا تفض بالقوة وإزهاق الأرواح وإسالة الدماء. المضحك أن السلطات الجديدة، ومن بينها وزارة الخارجية المختصة بالعلاقات مع الخارج، تظن أن مصر دولة معزولة عن العالم، تغلق عليها حدودها وتفعل فيها ما تشاء ولا يجوز لأي دولة خارجية التعبير عن غضبها وتوجيه الانتقادات، وإلا كان ذلك تدخلاً في شئون مصر الداخلية. غضبت تلك السلطات من تركيا لموقفها الرافض واستدعت السفير التركي، وغضبت من جنوب إفريقيا ومن الاتحاد الأفريقي. مصر جزء من العالم وما يحدث فيها سيحركه، حتى وإن صمتت أمريكا والغرب عن الفظائع التي تجري فيها والتي تخالف الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان. إعلام الفتنة والتحريض الذي يطالب السيسي بفض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة بالقوة يدرك نتائج ذلك على الرأي العام العالمي، وقد تناولت أمس كيف انتهى برويز مشرف وغابت شمسه عقب أن أصدر أوامره بفض اعتصام المسجد الأحمر، الذي انتهى بمصرع ألف من الطلاب والطالبات. وزارة الخارجية الغاضبة تعرف أن العالم لم يعترف بالسلطات الجديدة، وأن ممثلة الاتحاد الأوروبي كاثرين آشتون حرصت على لقاء الرئيس محمد مرسي لأنه الرئيس الفعلي، بل وانسحبت من المؤتمر الصحفي المشترك مع محمد البرادعي عقب إجابته بأن مرسي لن يكون له مكان في العملية السياسية، وبررت انسحابها باللحاق بالطائرة مع أنها طائرتها دبلوماسية تأتي وتغادر في الوقت الذي تحدده واجبات ولقاءات آشتون. أثر ما فعلته ظهر سريعًا على البرادعي الذي فقد السيطرة على انفعالاته فتكعبل. الأكثر والذي غض إعلام التحريض والفتنة الطرف عنه، أن آشتون رفضت الإجابة عما دار بينها وبين الرئيس مرسي، لأنه غير موجود الآن وليس في إمكانه التعليق، وهذا معناه قول واحد، إنه معتقل سياسي بطريقة غير دستورية. كل شيء يجري في مصر الآن غير دستوري، ولذلك فالاقتصاد ينهار سريعًا وقد اعترفت الحكومة المؤقتة – غير المعترف بها دوليًا – بأنها لا تعرف ماذا تفعل إزاء الأوضاع السيئة للغاية، وأول أزمة واجهتها مرتبات الموظفين لهذا الشهر والاستحقاقات العاجلة التي اضطرتها لاقتراض 6 مليارات جنيه عن طريق أذون خزانة طرحها البنك المركزي نيابة عن وزارة المالية. إنها المرة الأولى التي تعجز فيها الدولة عن دفع مرتبات الموظفين فتلجأ إلى الاستدانة. الشركات الصغيرة أو الكبيرة عندما تتعرض لهذا الموقف تستغني عن موظفيها وتغلق أبوابها.. فماذا ستفعل حكومة السلطات الجديدة في الشهور القادمة.. هل ستقوم بإنهاء خدمة كل الموظفين أو جزء منهم؟! رد الفعل العالمي للتغيير غير الدستوري أدى إلى خفض رحلات مصر للطيران إلى النصف، وإلى تراجع شبه كلي للسياحة، إذ انخفضت إشغالات الفنادق في الأقصر إلى أقل من 3% لأول مرة منذ 20 عامًا. ليلة 30 يونيه وصلت الإشغالات إلى 90% وكانت السياحة في طريقها لاستعادة عافيتها، علمًا بأن العافية ظلت متوفرة طوال الفترة التي أعقبت نهاية حكم مبارك وحتى إنهاء حكم مرسي، كانت تنخفض جزئيًا لكنها لم تهبط أبدًا إلى درجة الموت والأنفاس الأخيرة التي عليها حاليًا. ما يقال عن الأقصر ينطبق على السياحة في شرم الشيخ والبحر الأحمر وغيرهما. القاهرة طبعًا لا تحتاج إلى إثبات ما آلت إليه أمور هذا المصدر الرئيسي من مصادر الدخل القومي. لم يبق إلا تحويلات المصريين في الخارج وخاصة المقيمين في الولاياتالمتحدة الذين يحتلون المرتبة الأولى، ومن المتوقع أن تنخفض أو تنعدم بسبب الإشارات المرعبة عن أحوال مصر الضبابية التي لا تطمئن أحدًا. إذا تجرأت السلطة على الدستور فلا أحد يأمن تصرفاتها. أعود إلى النموذج الباكستاني الذي تحدثت عنه في مقال أمس، وكيف جعل منها دولة فقيرة متخمة بالفقر والعوز والفوضى الاجتماعية والسياسية وعدم الاستقرار. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.