هذا كتاب ممتع غاية الإمتاع، لعله من أمتع الكتب التى قرأتها عام 2010 رغم أننى قد سبق لى منذ عامين تقريبا قراءة جانب كبير من فصوله عندما كان مؤلفه الروائى المبدع مكاوى سعيد ينشرها فى جريدة البديل التى احتجبت للأسف الشديد . ..وقد يضللك هذا الكتاب لفرط بساطته فى البناء والسرد فتتصور أنه مجرد حواديت مثيرة كتلك التى يتبادلها الفنانون والمثقفون أنفسهم فى مجالسهم وسهراتهم التى يمارسون من خلالها النميمة إزاء الغائبين منهم، والتى تتركز غالبيتها فى وسط البلد (و الذى هو الموضوع الحاكم الرئيس لما ينطوى عليه هذا الكتاب من وجوه ومن أماكن ) ، قد تغريك بساطته فتتصور أنه كذلك بالفعل، لكنك حينما تمعن النظر فيه ، سرعان ما تتبين أنك إزاء أعمال فنية بديعة ، تخيرت زوايا رؤيتها عين نافذة إلى الأعماق، هى عين المؤلف/ المخرج التى تتعمد بشكل يبدو كامل العفوية أن تقدم لك مكونات النفس البشرية من خلال مواقف تسجيلية حية لشريحة بعينها من البشر تنبض بالصدق وبالتلقائية، وتعكس بشكل واضح طبيعة المرحلة التى عاشت فيها تلك الشخصيات وعايشتها ثم أصابتها من التحولات ما أصاب مصر كلها منذ حقبة السبعينيات إلى الآن، وهو يقدم لنا شخوصه أحيانا بأسماء مستعارة (لا يحار المرء كثيرا حتى يتعرف على أصحابها ) وأحيانا أخرى بأسماء أبطالها الحقيقيين، حيث نتعرف فى مقتنيات وسط البلد على وجوه بالغة النبل والجمال وعلى أخرى بالغة الخسة والقبح ، وعلى وجوه أخرى تتأرجح بين الطرفين وإن كانت الوجوه جميعها ناجحة فى جذب الإنتباه إلى ما تنطوى عليه من الدلالة، والواقع أن مكاوى سعيد يفعل فى مقتنيات وسط البلد شيئا شبيها بما فعله نجيب محفوظ فى : "المرايا " والتى كانت قد نشرت بدورها مسلسلة فى مجلة الإذاعة والتليفزيون( إن لم تكن الذاكرة قد خانتنى) ، ولقد نجحت إذ ذاك فى إثارة فضول قارئيها وتساؤلهم عمن تراها تكون الشخصية المقصودة ، ثم إنها نجحت أيضا وهذا هو الأهم فى أن تضع مرآة أمام كل شخصية لكى نرى فيها لا مجرد ملامح الصورة الخارجية فحسب ولكننا نرى بفضل تلك المرآة ما هو أبعد كثيرا من مجرد الملامح الخارجية . وهاهو ذا مكاوى سعيد يواصل المسيرة التسجيلية والإبداعية فى آن، فيقدم لنا مراياه الخاصة التى وإن تشابهت مع مرايا محفوظ فى بعض الأوجه إلا أنها تختلف عن المرايا المحفوظية فى وجوه أخرى ، فهى تركز على منطقة معينة من القاهرة هى المنطقة المعروفة بوسط البلد، وبالتالى فإن المكان هو العنصر الأول الحاكم فيها ثم تجىء الشخصيات لكى تكون تابعة للمكان ، أما عند نجيب محفوظ فإن العكس هو الصحيح ، وهكذا نتجول مع مكاوى سعيد بدءا من ميدان التحرير حيث مقهى على بابا الذى اقترن بأكثر من لوحة من لوحات هذا الكتاب، وحيث مقهى إيسائيفيتش الذى كان يمتلكه يوغوسلافى من معارضى تيتو، وحيث مقهى أسترا الذى كان فى نهاية الستينات وحتى منتصف الثمانينات منتدى ثقافيا حقيقيا ، حيث شهد مولد ما عرف بمسرح القهوة على يد عبدالرحمن أبو زهرة وعبدالرحمن عرنوس وعبدالعزيز مخيون ، وفى ساحته غنى محمد نوح للشاعر إبراهيم رضوان : مدد مدد/ شدى حيلك يابلد، فى أعقاب النكسة ، وفى أركانه كان القاص يحيى الطاهر عبدالله يتلو قصصه على السامعين إذ أنه كان يحفظها عن ظهر قلب ، وفى جانب من جوانبه تجلس مجموعة السينما الجديدة وعلى رأسها الناقد سامى السلامونى وفتحى فرج وسمير فريد وعلى أبوشادى ...، وقد كان العصر الذهبى المكان كما يقول المؤلف هو ما بين عامى 1975و1985.ثم تدهورت خدماته وبيع لمجموعة من المستثمرين أقاموا بدلا منه محلا للبيتزا ومكتبا سياحيا لإحدى شركات الطيران ، وقد كان ما حاق بأسترا جزءا مما حاق بمصر بأكملها وللحديث بقية [email protected]