إن كانت "عشر الرحمة" من رمضان، قد مرقت دون أن نفيد من رحماتها وبركاتها ونفحاتها، فإن أمامنا "عشر المغفرة" وهي الثلث الثاني من شهر النفحات والبركات، وقد أظلتنا الآن، والسعيد من تحققت له مغفرة الرحمن الرحيم، وفاز فيها بتمام الرضوان، وخرج منها وقد غفرت له الذنوب، ومحيت أثار العيوب، وحطت عنه الخطايا، وفاز برضا رب البرايا، فأشرف على العشر الأواخر، أي الثلث الأخير من الشهر، وقد تهيأ لموسم العتق من النيران، وفاز الفوز العظيم في شهر رمضان العظيم. لا أزال أذكر هذا الحديث الشريف العظيم كلما مرت علي كلمة المغفرة، فأجدني أقف مبهورًا أمام عظمة مغفرة الله تعالى لعباده، ومدى سعته سبحانه وتعالى لمن يقبل عليه وينيب إليه ويتوب عليه.. فهذا الرجل الذي كان قبلنا أي قبل أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد أوصى بنيه، والوصية واجبة التنفيذ، فقال: إن أنا مت فحرقوني ثم اطحنوني ثم اذروني في الهواء، وقد كان، أن مات الرجل والتزم الأبناء بتنفيذ وصية والدهم، حتى أصبح جسده كل ذرة في أرض وفي بحر وفي جبل بعد أن أخذتها الرياح كل مأخذ، فجمعه الله القدير الذي يقول للشيء كن فيكون والذي خلقه وخلقنا أول مرة، فاستوى قائمًا أمام رب العزة والجلال، فسأله ما دعاك لفعل هذا، فقال: خوفي من ذنوبي وخشيتك يا ربي، فضحك الله له وقال علم عبدي أن له ربًا يحاسب على الذنب، ثم أتاه عفو الله الغفور الرحيم: "اذهب فقد غفرت لك"! إن هذا الرجل لم يكن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن في شريعتهم الحرق بالنار بعد الموت، كما هي عادة بعض البلاد، ولم يكن له شهر عظيم اسمه شهر رمضان، شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران، ولم يكن له في شريعته من أبواب الخير والبر والإحسان ما يهيئه لموسم المغفرة، فاجتهد بشكل شخصي، فلما علم الله تعالى صدق نواياه، وأنه يخشى عذابه وعقابه لكثرة ذنوبه، غفر الله له المغفرة الواسعة.. وهو سبحانه الذي قال مخبرًا عن نفسه "إن ربك واسع المغفرة". وأظنكم لستم بحاجة إلى أن أذكركم بحديث من كان قبلنا أيضًا قاتل التسعة والتسعين ثم ختم المائة بالعابد الذي قنطه من رحمة الله، حتى دله العالم إلى قرية فيها صالحون يدخل فيهم، ثم أدركه الموت في منتصف الطريق فتخاصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فطوى الله له أرض الرحمة التي كان يقصدها فغفر الله ودخل في رحمة الله الوافرة ونالته مغفرته الواسعة. ونحن في عشر المغفرة لا تجعلوها تمر منكم مرور الكرام كما مرت العشر الأول، فإن صنفًا من الناس يخرجون من رمضان وقد رغمت أنوفهم، وخابوا وخسروا بعد أن تودعهم الليالي والأيام ولم يغفر لهم في رمضان. ألم يقل لكم رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل أدركه رمضان ولم يغفر له"؟
******************************************** ◄◄ حدث رمضانى ◄ وفاة الذئب الأزرق.. "الأمير الفارس والحاكم الإنسان" = أكثركم لا يعرفه، لا اسمًا ولا لقبًا، ولا تاريخًا ولا سيرة، ولا جهادًا، وأكثر أكثركم ربما لم يسمع به، وعلى العموم إليكم نبذة مفيدة عنه: هو "مظفر الدين كوكبوري"، وكلمة كُوكُبُوري تعني "الذئب الأزرق"، اشتهر بهذا اللقب لشجاعته وهو أمير "إربل". و"إربل" مدينة كبيرة، تقع إلى الجنوب الشرقي من مدينة الموصل العراقية، على بعد 80 كم منها. وهو واحد من كبار القادة الذين شاركوا صلاح الدين الأيوبي في جهاده ضد الصليبيين، وفي معركة حطين (583ه) التي حشد لها صلاح الدين ثمانين ألفًا من المجاهدين، كان لمظفر الدين مهمة بارزة في تلك المعركة الخالدة؛ فقد تولى قيادة جيوش الموصل والجزيرة، وأبلى في المعركة بلاءً حسنًا. ويذكر له التاريخ أنه هو الذي أوحى بفكرة إحراق الحشائش التي كانت تحيط بأرض المعركة حين وجد الريح في مواجهة الصليبيين تلفح وجوههم، فلما نفذت الفكرة وأضرمت النار في الحشائش، حملت الريح الدخان واللهب والحرارة إلى وجوه الصليبيين، فشلَّتْ حركتهم عن القتال، وحلت بهم الهزيمة المنكرة. ثم لما انتهت الحروب عاد إلى إربل فحكمها بعد وفاة أخيه حتى وافته المنية، في الرابع عشر من رمضان سنة 630 ه، الموافق 24 يونيه 1233م. ◄◄ قالت الحكماء: ◄ مثل شهر رمضان كمثل رسولٍ أرسله سلطان إلى قوم، فإن أكرموا شأنه وعظموا مكانه وشرفوا منزلته وعرفوا فضيلته، رجع الرسول إلى السلطان شاكرًا لأفعالهم، مادحًا لأحوالهم، راضيًا لأعمالهم، فيحبهم السلطان على ذلك، فيحسن إليهم كل الإحسان.. وإن استخفوا برعايته وهونوا لعنايته، ولم ينزلوه منزلته من الإكرام، وفعلوا به فعل اللئام، فيرجع الرسول إلى السلطان وقد غضب عليهم من قبيح أفعالهم وسيئ أعمالهم، فيغضب السلطان لغضبه، كذلك يغضب الله على من استخف بحرمة شهر رمضان.. فيا أيها الإنسان، هذا شهر رمضان شهر التوبة والغفران، وهو رسول من عند الملك الديان، فمن أكرمه منكم حقيقة الإكرام، وحفظ فيه لسانه من قبيح الكلام، وبطنه من أكل الربا والحرام وأموال الأرامل والأيتام، غفر له الملك العلام، وأدخله الجنة مع محمد عليه الصلاة والسلام. (العلامة ابن الجوزي) دمتم بحب عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.