تعتبر ظاهرة الالتفات في القرآن, من أكثر الظواهر البلاغية شيوعًا في النسق القرآني, والأكثر حضورًا في كثير من الآيات القرآنية, والالتفات - باختصار - هو العدول عن طريقة التعبير عن المعنى إلى طريقة أخرى, وبطريقة أكثر حداثة هو تغيير حركة الضمائر, بين الأساليب الثلاثة المعهودة, التكلم – الخطاب- الغيبة, مثل قوله تعالى حتى إذا كنتم (مخاطب) في الفلك وجرين بهم (غيبة) بريح طيبة, فعدل عن القول وجرين بكم (وهو المتوقع) إلى وجرين بهم, خلافًا لما هو شائع, وقد توقف كثير من المفسرين أمام هذه الظاهرة, لكن عباراتهم كانت تدور في الإطار التقليدي وفقًا لقواعد البلاغة العربية, من أن ذلك الالتفات يثير الانتباه, ويكسر حدة الملل من أداء المعنى بطريقة واحدة, وقد علق "ابن كثير" مثلًا على قوله تعالى: مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا, من أن العدول عن الجمع هنا (مثلهم ) إلى المفرد (كمثل الذي ) بأنه التفات حسن, لكنه لم يوضح لنا مبررًا لهذا الحسن. لكن ومع بروز التقنيات السينمائية وطرق التأثير السينمائي وحركات الكاميرا المختلفة, فإننا نستطيع أن نقدم مقاربات أخرى جديدة وفقًا لحركة الكاميرا وهي تحول الضمائر إلى مجموعة من اللقطات المختلفة لإحداث التأثير المنشود في المستمع أو المشاهد. ولنحاول أن نطبق ذلك على آية لتقريب وجهة النظر هذه, قال تعالى في سورة محمد: ومنهم من يستمع (مفرد ) إليك حتى إذا خرجوا (جمع ) من عندك, إن هذا التحول من المفرد إلى الجمع, لا يمكن أن نتساهل أمامه بأن نقول إنه التفات حسن وفقط. لكن وبناء على حركة الكاميرا السينمائية نستطيع أن نبحث عن السر وراء ذلك الالتفات. إن الآية هنا تتحدث عما يشبه نظرية المؤامرة التي ينسج خيوطها بعض اليهود والمنافقين (تذكر أن سورة محمد مدنية), والمؤامرة هنا تتلخص في التشكيك فيما يقوله النبي صلى الله عليه وسلم, وأنه لا قيمة له (حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفًا؟) , أي إنه لم يقل شيئًا ذا قيمة, لكن هؤلاء (المتآمرين) كانوا على درجة كبيرة من الذكاء, في تحقيق ذلك التشكيك, فهم كانوا يجلسون فرادى (ومنهم من يستمع) كأن كل واحد منهم لا يعرف صاحبه, وها هي كاميرا التصوير تتحرك وسط جموع الحاضرين (الكاميرا المتحركة) وهي تركز على الوجوه, يبدو على كل وجه منهم أنه ينصت بطريقته, هذا منتبه, وذلك متأفف, وثالث متحفز, المهم أن لكل واحد منهم بصمته في الإنصات, لذلك جاء الضمير بصيغة المفرد (يستمع), وبعد انتهاء حديث النبي صلى الله عليه وسلم, فوجئنا بهذا المشهد العجيب, إنهم يسرعون جميعًا نحو أهل العلم لكي يبثوا الشك والسموم فيما قيل, المتحدث عنه ليس شخصًا واحدًا, إنهم مجموعة, وهنا تأتي الكاميرا الثابتة لتضعهم جميعًا في كادر واحد, (خرجوا), (قالوا), وكأنهم اتفقوا دون تخطيط مسبق, مما يمنح قولهم مصداقية في تشككهم وتشكيكهم فيما قاله صاحب الدعوة صلى الله عليه وسلم, وهنا تبرز قيمة الالتفات, الذي وصف في كتب التفسير بأنه حسن, دون تقديم مبررات هذا الحسن. إن تطبيق حركة الكاميرا على كثير من الآيات القرآنية استطاع أن يحل كثيرًا من المشكلات اللغوية التي توقف أمامها كبار المفسرين دون تقديم أجوبة شافية.