في رحلة البحث عن النهضة الغائبة في العالم الإسلامي على مدار القرن الأخير كله، كان هناك مشكلة كبرى يعاني منها المثقف العربي والمسلم، يمكن وصفها بحال "المراهقة الحضارية"، ونعني بها الرعونة والتسرع في اتخاذ مواقف من الكثير من أوضاعنا الاجتماعية والقيمية بحسبان ذلك نوعًا من تجاوز الجمود والتخلف إلى استباق قيم الحضارة والنهوض، وكان هذا التسرع كثيرًا ما يؤدي بالوعي الثقافي إلى مخاصمة مع مقومات أساسية لهويته، وأكثر من ذلك مع مقومات حقيقية للنهضة التي يبحث عنها، وكان الموقف من التقاليد الاجتماعية نموذجًا من نماذج هذه "المراهقة الحضارية"، حيث شاع منطق النظر بسلبية مفرطة تجاه "العادات والتقاليد" التي تميز شعوبنا وأمتنا وتعبر عن مزاجها النفسي ومواريثها الاجتماعية والأخلاقية، وقد أصبحت "التقاليد" - والحديث عنها - مرتهنةً بصفات القبح والسلبية والتخلف والانحطاط، ويغلب إلحاق وصف "البالية" بها إنعامًا في التنفير منها، وهذه بلا شك سطحية فكرية ومراهقة ثقافية، لم تعد تليق بالفكر الجاد والنظر العميق والمسؤول؛ وذلك أن "التقاليد" في جوهرها إنما هي نسيج المجتمع، وحاضنة التواصل الإنساني بين أجياله، وتراكمات الخبرة النفسية والسلوكية والأخلاقية، كما أنها تمثل الضمانة الأساسية التي تحمي نسيج المجتمع من التشققات وصراعات الأجيال وفوضى القيم والسلوك وضياع العرف. ولذلك انتهى رأي جمهور أهل العلم في الإسلام إلى اعتبار "العرف" في الفتاوى وفي القضاء، ما لم يكن مُحِلاً لحرام أو مُحَرمًا لحلال، أي ما دام دائرًا في هذه الدائرة الواسعة مما سكت عنه الشرع الحنيف أو أباحه. كذلك، وعلى المستوى الإنساني، فإن "التقاليد والعادات" هي مما يضفي البهجة والامتداد والسعة على حياة البشر، فهذا التنوع والاختلاف في عادات الشعوب وطباعها يجعل الأرض أشبه بالبستان الخصب الذي تتنوع فيه الورود والرياحين بألوانها وشذاها، ولنا أن نتخيل ضيق هذه الأرض وإملالها لو كانت شعوبها على نمط واحد وطباع واحدة، وأيضًا فإن عادات الشعوب وتقاليدها ليست حججًا على بعضها بعضًا، وإنما التفاضل بينها يكون بقدر قربها أو بعدها عن هدى الله والخلق القويم والفطرة النقية، ولا بأس من الدعوة لتجاوز عادة من العادات وتقليد من التقاليد بل يكون ذلك من الواجبات إذا ثبت ضرره في الواقع الجديد، وزاد الحرج منه على الناس، ولكن أن نعلن الثورة الجاهلة على العادات والتقاليد بإطلاق، فهذا طيش ومراهقة حضارية وتنكب عن طريق الرشاد، كما أنها تكون نوعًا من افتعال المعارك الثقافية أو الاجتماعية الساذجة، التي نضيع فيها أوقاتنا وجهودنا متصورين أننا بذلك نسارع بنقلة الأمة إلى مدرج النهوض والتحضر مع أننا في الواقع نعقد مسار النهضة ونسيء إلى معنى التحضر. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.