بعض القضايا التي تهب فجأة وبدون سابق إنذار كلما بدأ الوطن ينشغل بهمومه الحقيقية لا تدع لك مجالا للشك في بواعثها ومحركاتها واتهام المروجين لها ، لعل حادثة الشد والجذب في موضوع كتاب "ألف ليلة وليلة" أحد الأمثلة البارزة على هذا المعنى ، وزارة الثقافة قررت فجأة إعادة طبع الكتاب ، مع دعاية مشبوهة لهذا الحدث "السعيد" ثم ينشط محامي مجهول أو معلوم للتقدم ببلاغ يطالب بحظر الكتاب أو مصادرته لأنه يحتوي على انحرافات أخلاقية ، فتنشط جوقة إعلامية كبيرة وتبسط لها مساحات واسعة في صحف الحكومة وبعض الصحف المشبوهة الأخرى مع مؤتمرات رسمية وندوات للدفاع المجيد عن ألف ليلة وليلة ، والهجوم الساحق على الرجعية والظلامية والتخلف وثقافة النفط .. إلى آخر النشيد "التنويري" المعروف ، وإصرار رسمي كبير على النفخ في القضية وإثارة الجدل حولها وسحب مساحات النشر والحديث والحوار الوطني إلى هذه القضية "المفتعلة" ، ربما لمحاولة صرف الأنظار عن "قضية الوطن" الحقيقية أو إضعاف وهجها أو إرهاق النخب المصرية في معارك الشوارع الجانبية ، والحقيقة أن كتاب ألف ليلة وليلة أثر تاريخي كبير وجميل في مجمله ، ويكفي أنه ألهم ثقافات العالم كله تقريبا وشغل خيالها وبسط سطوته على كثير من نتاجاتها الأدبية ، بما في ذلك الأدب الأوربي الوسيط والحديث ، وبعض القصص والروايات التي تنتشر هذه الأيام على نطاق واسع تتلمس فيها طيف "ألف ليلة وليلة" مثل سلسلة "هاري بوتر" ، وكتاب ألف ليلة وليلة الضخم لا يهتم به عادة كنص تاريخي إلا شريحة صغيرة من النخبة الأدبية ، والغالبية العظمى من المثقفين والأدباء لا يملكون نسخة من الكتاب أصلا ، هكذا كان وهكذا يكون في المستقبل ، لأن ملايين الناس لا يملكون الوقت والصبر على قراءة آلاف الصفحات من هذه الحكايات الشعبية المتشعبة والغريبة ، ولكنها تكون ملهمة للأدباء والفنانين لاستخراج كنوزها الفنية وخيالها المدهش والجميل والنسج عليها أو إعادة صياغتها في إطار عصري ، ولا ينسى أبناء جيلي مسلسل ألف ليلة وليلة الذي كانت تقدمه الإذاعة المصرية في رمضان من كل عام وكانت تنجذب إليه آذان الملايين من مختلف الأوساط والشرائح الاجتماعية والثقافية والدينية ، ولم ينشغل أحد باتهامات لألف ليلة وليلة أو مطالب بمصادرتها أو احتجاجات عليها ، لأن اللاعبين المحترفين في إشعال الحرائق لم يكونوا موجودين ، وبعض أجهزة الدولة المعنية بإثارة معارك الشوارع الجانبية لم تكن مضطرة لتفعيل مثل هذه المعارك وقتها ، هذا على الرغم من أن "ثقافة النفط" التي يستخدمونها شماعة كانت موجودة بقوة أكثر من الآن ، ضحكت عندما قرأت لجمال الغيطاني تصريحات عنترية يقول فيها أنه مستعد للاستشهاد في سبيل نشر ألف ليلة وليلة ، وهو تصريح كوميدي ومشهد تمثيلي لا يليق بأديب كبير مثله ، والغيطاني أفلس أدبيا منذ سنوات ، ولم يعد لديه ما يقدمه أو يذكر الناس به ، فاندفع في هذه "اللعبة" ، وكان أولى به أن نسمع عن شهامته وتضحيته هذه في "هبة" الإصلاح الحقيقي التي شغلت مصر مؤخرا ، لكنه عند الجد "فص ملح وذاب" ، وأنا أستغرب جدا من إصرار الغيطاني على نشر عدة ألفاظ قليلة جدا ، لا تمثل نصف صفحة في كتاب من آلاف الصفحات ، وهي ألفاظ بذيئة بالفعل وخادشة للحياء ولو أطلقها أي مواطن في طريق عام أو مجلس عام لتطايرت على رأسه الأحذية ، هي ألفاظ ساقطة فعلا ، وحتى من يدافعون عن الكتاب يتحاشون تماما ذكر هذه الألفاظ لأنه لا توجد صحيفة ولا مجلة تتحمل مسؤولية نشرها ، وكما قلت هي ألفاظ محدودة جدا ، بعضهم أحصاها بحدود تسعة وعشرين كلمة ، ومسألة حذفها لا تضر الكتاب أبدا ولا تغير المعنى في قليل ولا كثير ، خاصة وأن الكتاب تراكم حكايات وتعديلات وصياغات على مدار أجيال وقرون ، فلا حذف هذه الألفاظ القليلة سيضر بالكتاب ، ولا وجود هذه الألفاظ يدعونا لمصادرة الكتاب بالكلية ، خاصة وأن الكتاب محدود الانتشار جدا في أوساط المثقفين أنفسهم ، فما بالك ببقية الشرائح الاجتماعية ، قضية تافهة ، قضية مفتعلة ، وغشاش كل من يشغل بال الناس بمثل هذه الألاعيب . [email protected]