الحراك الشعبي الذي عرفه الشارع المصري طوال الأسابيع الماضية يعطي دلالات كثيرة ومتشعبة عن حال مصر وأوضاعها السياسية والإدارية والاجتماعية ، لعل في مقدمة هذه الدلالات الإحساس العام بأن الدولة كمنظومة سياسية وإدارية وقانونية لم تعد أهلا للثقة عند المواطن لنيل الحقوق ، لدرجة أن أي صاحب مظلمة الآن أو مطلب مشروع يتجه مباشرة للتظاهر أمام البرلمان أو مجلس الوزراء أو وسط البلد ، وهذا يعني أنه لا يرى أملا ولا قيمة لإضاعة الوقت في سلوك السلم الإداري التقليدي أو حتى اللجوء إلى القضاء ، خاصة وأن هناك عشرات الآلاف من القضايا والأحكام التي صدرت خاصة من القضاء الإداري ولا تقوم الحكومة بتنفيذها وتتجاهلها تماما وكأنها صدرت ضد حكومة جزر القمر ، وهذا نذير شؤم على الاستقرار الاجتماعي والأمني والاقتصادي في مصر بدون أدنى شك ، الدلالة الأخرى المهمة هي أن المصريين أصبحوا مقبلين على حالة من "المران" السياسي الجديد ، الذي يتحسس خطواته نحو سبل التغيير والإصلاح المنشودة ، فهناك تظاهرة كل أسبوع تقريبا لسبب أو آخر ، صحيح أنها تظاهرات تبدو صغيرة أو ضعيفة العدد نظرا لخوف الناس من بطش قانون الطوارئ وأدواته ، ولكنها في النهاية عملية تمرين حقيقي يزداد تواتره كما يزداد اتساعه يوما بعد يوم ، والمؤكد أنه ستأتي اللحظة التي يعرف فيها الشارع المصري المظاهرات المليونية ، وليس مستبعدا أن نشهد خلال أشهر مائة ألف متظاهر يغلقون ميدان التحرير ومنطقة وسط القاهرة كلها ، وأتصور أن جهات عدة في أعلى هرم السلطة السياسية والأمنية ترصد هذه الظاهرة ، ولا يقلقها ما يحدث الآن ، وإنما القلق الحقيقي فيما يمكن أن تصل إليه أو تتصاعد إليه الأمور ، ولعله لذلك السبب وذلك القلق بدأت بعض الأصوات الحكومية في الإعلام الرسمي للدولة تطالب الحكومة بالبحث عن حلول حقيقية وعملية وواقعية لاحتواء هذه الحراك الجديد المتنامي ، لأنه من المضحك أن يأتي رجل مثل الدكتور مفيد شهاب ليتحدث ببراءة متناهية عن أن الدولة لا تمنع التظاهرات وإنما لا بد لأصحابها من سلوك الطريق الشرعي بتقديم الطلب أو اللجوء إلى القضاء من أجل الحصول على ترخيص ، هذا هزل في مواقف الجد ، وتلاعب بالكلام والحقائق بطريقة فيمها تماجن سياسي مع الأسف ، فلا الحكومة ستوافق على تظاهرة ، إلا إذا كانت من شاكلة تظاهرات الختان التي تقودها زعيمات ثورة السيدة حرم الرئيس ، ولا القضاء يملك إلزام الحكومة بالموافقة على تظاهرة حتى لو قضى فيها بحكم بات ، ولذلك سيبقى الأمر أمر انتزاع حق التظاهر في الشارع بالقوة من قبل المواطنين ، ويقابله حق منع التظاهر بالقوة من قبل أجهزة الدولة ، حتى الآن نتائج لي الذراع هذه محدودة وغير دموية ، ولكن لا يوجد أحد يطمئن أو يضمن أن لا تتحول الأمور إلى الأسوأ مع القوت وتنامي الغضب والعصبية والتطرف عند الطرفين ، الشارع والسلطة معا ، بعض أقلام الحكومة تطرح أفكارا مدهشة من مثل ضرورة البحث عن "مكان" آمن لعمل المظاهرات ، بعضهم اقترحه في صحراء طريق السويس!! ، وبعضهم اقترحه في استاد القاهرة مستشهدا بنجاح التجربة التي أجرتها الحكومة ذاتها في بعض المواقف السابقة ، وهي كلها أفكار ساذجة ومضحكة ، ولكن الجاد فيها أن هناك شعورا جديدا لدى السلطة بالقلق ، وإحساسا متزايدا بضرورة البحث عن صيغة آمنة وعملية للتعامل مع "الحق المشروع" في التظاهر ، وهذا مكسب جديد للحركة الوطنية المصرية مهما بدا ضئيلا . [email protected]