بين فقه الأحوال الشخصية (فقه الأسرة) والسياسة والحكم علاقة وثيقة منذ القدم، يلحظ ذلك الدارس الراصد، بل كثيرا ما تطرأ على مصطلحات الساسة وتعبيراتهم ألفاظ هي من مشتقات وألفاظ فقه الأحوال الشخصية، فترى مثلا إذا كان هناك تحالف بين حزبين، ثم انتهى التحالف بالانفصال والفشل، يعبر أهل الصحافة والسياسة عن ذلك بقولهم: إنه أشهر طلاق سياسي في هذه الآونة!! وكثيرا ما يستخدم أهل السياسة مصطلحات فقه الأحوال الشخصية، وهو ما عبر عنه سياسي مصري في الأربعينيات من القرن العشرين وهو أمين عثمان حين قال مشبها العلاقة المصرية البريطانية: إن العلاقة بين مصر وبريطانيا علاقة زواج كاثوليكي لا انفصال بينهما. فعلق على ذلك الشاب أنور السادات مع بعض رفاقه الذين دبروا قتل أمين عثمان: سنثبت لأمين عثمان ولمصر كلها أنه زواج عرفي على ورقة يمكن تمزيقها في أي وقت!! ومنذ القدم كان الفقهاء العظام يستخدمون فقه الأحوال الشخصية (فقه الأسرة) في التعبير عن سخطهم من الحاكم، إذا ما ضيق في التعبير العلني، فيستخدمون أحكام الطلاق والزواج في التعبير عما في داخلهم، ومن ذلك فتوى الإمام مالك الشهيرة في طلاق المُكْرْه، فقد كان على عهده يأخذون البيعة للأمير ويجعلون الناس يقسمون على الولاء، فوشوا به إلى الحاكم أنه لا يرى هذه الأَيْمان ببيعة الأمراء بشيء، وعرض بذلك الإمام مالك بطلاق المُكْره، وأنه طلاق لا يقع، ولا يغير شيئا من الواقع، والناس تفهم ما يعنيه الفقيه من حكم يسقطه على حكم آخر، ومن قول في أمر صريح لا يلام عليه، إلى أمر يعرِّض فيه بما يريد، فنما إلى علم الحاكم فتوى الإمام مالك، فأمر بتجريده من ثيابه، وضربه بالسياط، ونال بسببها قسطا كبيرا من التعذيب، وجذبت يده حتى انخلعت من كتفه، ولعلك ترى من يتمسكون بمذهب الإمام مالك أنهم يسدلون أيديهم في الصلاة، أي لا يضع اليد اليمنى على اليسرى على البطن، وقد علل بعض الدارسين ذلك: بأن الإمام مالك لما انخلعت يده من كتفه كان يسدلها، فقلد في ذلك تلامذته. فكانت فتوى الإمام مالك في طلاق المكره توظيفا علميا لنهي الناس عن إعطاء البيعة للأمير أو الحاكم إذا كانوا كارهين له، وأن البيعة التي تتم بهذا الشكل هي بيعة باطلة. إذن العلاقة بين الفقه وبخاصة فقه الأحوال الشخصية والحكام علاقة وطيدة سواء في تراثنا الفقهي، أو في تراثنا السياسي. بل حتى في عالم السينما والرواية وفي الأفلام كانت العلاقة الزوجية وفقه الأسرة مخرجا للأديب والروائي إذا ضيقت عليه السلطة في أن يعبر عن معارضته لإدارة حاكم للبلاد، فليس له ملاذ إلا الرمزية عن طريق فقه الأحوال الشخصية، فرواية (شيء من الخوف) للأديب المعروف ثروت أباظة، والتي أراد أن يعبر عن رأيه في عبد الناصر وسياسته كحاكم، وفي مراكز القوى التي حوله، لم يجد ما يسعفه في التعريض، والرمزية، أفضل من أن يقتبس من فقه الأحوال الشخصية، وخاصة الزواج، وكانت العبارة الشهيرة في الفيلم السينمائي (شيء من الخوف): جواز (زواج) عتريس من فؤاده باطل، بااااااااااااااطل بااااااااااااااطل!! حتى في النكت السياسية تجد العلاقة قوية بينها وبين هذا الفقه، كالنكتة التي تقول على لسان أحد أبناء الحكام العرب، وقد سئل: هل يفكر في أن يحكم بلده بعد أبيه؟ فقال: إن هناك نصا شرعيا يمنعه من ذلك، سئل: وما هو هذا النص؟ قال: قول الله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم)!! وهناك في الفقه الإسلامي مادة: الخُلع، والخَلع، الأولى في فقه الأسرة، والأخرى في فقه السياسة الشرعية، وهما مشتقتان من مادة لغوية واحدة، وانبثق عنها حكمان مهمان: الأول: أن تخلع المرأة زوجها إن كرهته، وأن تدفع له ما أعطاها من مهر، والمادة الثانية: هي مادة الخَلع، وهي خلع الحاكم إن كرهته الأمة، ورأت منه انحرافا عن الصواب، وقد جربت الأمة الإسلامية الخلعين، سواء خلع الرجل، أو خلع الحاكم الظالم أو المكروه من الرعية، ففي حديث المرأة التي أرادت أن تخلع زوجها قال لها صلى الله عليه وسلم: "أتردين عليه حديقته؟ قالت: وأزيده". وخلعت الأمة حاكما من حكام بني أمية من قبل، حينما وصل البغض بينهما إلى درجة لا علاج لها، ووصل به حد الاستخفاف بالأمة ومقدراتها إلى درجة جعلتهم يسعون إلى خلعه، وتم خلعه بالفعل. ولا أدري لماذا ضاق بعض المشايخ وبخاصة من صفوف المعارضة من قانون الخلع المصري الذي طبق منذ عدة سنوات، رغم أنه من الممكن أن يوظف سياسيا أيضا، وبخاصة حركات التغيير والمعارضة، فالأمة التي تكره حاكمها وتبغضه، بل وأحيانا تلعنه إن أرادت تغييره أو خلعه قياسا على قانون الخلع المنبثق من الفقه الإسلامي عليها أن ترد له المهر الذي دفعه لها حاكمها المكروه منها، إن كان قد دفع لها مهرا من الأساس، إن لم يكن أكل إرثها وممتلكاتها، ويا دار ما دخلك شر، كما يقال في المثل العامي، لتبحث الأمة عن رجل آخر ترضاه بمهر جديد وعقد جديد، أو بلغة أهل البلد في مصر: تبريه، وعملا بالمرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه حين قال لها: أتردين عليه حديقته؟ قالت: وأزيده إن أراد. وبذلك نحل أكبر إشكالية سياسية بين الأمة وحكامها، وأنا متأكد أن الأمة التي ستضيق بحاكمها لن تعجز في جمع مهره الذي دفع، أو تبريه، أو ترضيه بما يريد من مال مقابل أن يحل عن سمائها، أو يرحل عنا مشكورا غير مأزور، غير مأسوف عليه ألم أقل لكم: إن بين الفقه الإسلامي وبخاصة فقه الأسرة، وبين السياسة علاقة وثيقة، وأن بين قانون خُلع الأزواج، وخَلع الحكام شعرة دقيقة لمن يراها، وقد سُن القانون الأول (الخُلع) ومورس وطبق، فمتى تطبق الأمة القانون الآخر؟!! [email protected]