المرة الوحيدة التي قابلته فيها كانت في نهاية التسعينات ، وكانت هناك معركة قضائية بيني وبين رفعت السعيد رئيس حزب التجمع ، الأمين العام للحزب وقتها ، وكنت قد كتبت في صحيفة الشعب سلسلة مقالات توثيقية في تاريخه السياسي والفكري ، جمعتها بعد ذلك في كتاب أصبح مرجعا لكل من يريد أن يعرف تاريخ الرجل الحقيقي ، وكانت المقالات قاسية ومؤلمة للغاية ، حاول رفعت أن يوقفها واتصل بالمرحوم عادل حسين وهدد بأنه سيقاضيني إن لم أتوقف ونقل إلي عادل حسين التهديد وقال أن الأمر لك ، فلم أتوقف ، وفي النهاية ذهب رفعت إلى المحكمة ورفع جنحة مباشرة وطالب فيها بحبسي سنتين وغرامة مائة ألف جنيه ، وكان اليساريون قبل هذه الواقعة هم الذين يتهمون الآخرين بأنهم يجرجرون المثقفين إلى المحاكم بدلا من الرد على الفكر بالفكر وعلى الرأي بالرأي ، وبعد جلستين في المحاكمة شعر السعيد بالفضيحة ، فتحدث مع الصديق منتصر الزيات المحامي ومع الأستاذ عادل عيد المحامي رحمه الله ، عارضا التوسط للتصالح وسحب القضية ، وكتب مقالا في الصفحة الأخيرة من الأهالي يتودد فيه معي ويمهد للمصالحة تحت عنوان "حكايتي معه" ، واستشرت بعض الأفاضل وقتها فقالوا لي : استشر يحيى بيه ، ذهبت إليه في مكتبه في عمارة الإيموبيليا ، كانت حجتي هي أخذ نصيحته في عرض التصالح ، ولكن الحقيقة أني اتخذتها فرصة لمقابلة هذا "الهرم" القضائي المصري الفذ ، وأسمع منه وأشحن بطاريتي المعنوية من صلابته وكلماته ، حدثني يومها عن أحوال القضاء وطرفا من مشكلاته وأن هموم الوطن ومشكلاته أكبر مما تتحدث فيه ، وفيما يخصني قال لي : يا ابني القضية لا تستحق فإن كان جادا في عرضه فاقبل التصالح ، كان يحيى الرفاعي في ذلك الوقت ، وما زال حتى الآن ، أسطورة قضائية وزعيما حقيقيا للإصلاح في مصر ، مركزا على الإصلاح المؤسسي باعتباره هو عماد الإصلاح في بلد مثل مصر ، لم يكن مهتما بالخطابة ولا الإعلام ، ووقته لم تكن الفضائيات المستقلة قد انتشرت ، وكان الإعلام الرسمي يحاصره ويزدريه ويتطاول عليه الأوغاد وخدم السلطان ، كان الرئيس مبارك لا يطيق سماع اسمه ، فهو القاضي الذي جرؤ علانية على أن يطلب محو كلمة الرئيس من مضبطة مؤتمر العدالة الأول (1986) لأنها ضد العدالة وضد الحريات الأساسية التي كفلها الدستور ، مما جعل الرئيس يغادر المؤتمر غاضبا ، وهو شيخ قضاة مصر الذي رجاه الرئيس مبارك أن لا يتعرض لقانون الطوارئ في مؤتمر العدالة الذي سيحضره الرئيس ، فرفض وأصر على التنديد به والمطالبة باسم قضاة مصر جميعا بإلغائه ، فاضطر مبارك إلى دعوة مجلس الشعب للانعقاد قبل مؤتمر يحيى الرفاعي بيوم واحد ليقرر مد العمل بقانون الطوارئ ثلاث سنوات دفعة واحدة ، هلعا من تأثير مؤتمر العدالة وكلمة شيخ القضاة ، السيد المستشار يحيى الرفاعي هو أحد قضاة مصر الشرفاء الذين أطاح به الرئيس عبد الناصر في مذبحة القضاء لأنه قال : لا ، وأعادته محكمة النقض بعد رحيل عبد الناصر ، ثم اصطدم بالسادات لأنه قال : لا ، لقوانين العيب وتقييد الحريات ، فأوكل السادات إلى أنور أبو سحلي أمر "تأديبه" فمنعه من حقه في محكمة النقض ، قبل أن يعود بحكم جديد ، وتعرض في عصر مبارك للتهميش والإهانة والتحرش والتهديد ، فلم يأبه لذلك كله ، السيد المستشار يحيى الرفاعي هو امتداد لتيار الاستقلال داخل مؤسسة القضاء المصري ونادي قضاة مصر ، وأولاده من بعده حافظوا على رسالته وكانت لهم وقفتهم المهيبة أمام محكمة النقض وقت فوران الوطن قبل سنوات ، يحيى الرفاعي كان بمقدوره أن يكون وزيرا للعدل أو رئيسا للبرلمان أو مستشارا بديوان الرئيس أو غير ذلك من أرفع المناصب يتقلب في النعيم والوجاهة والسلطة ويحجز مساحات النشر الدائمة في صحف الدولة وشاشات تليفزيوناتها ، لكنه كان يتعالى على كل مغريات السلطة ، إيمانا منه بحق الأمة في عدالة حقيقية وقضاء مستقل وحرية مصونة وكرامة محفوظة ، كان نبيلا من النبلاء ، ودرة من درر الرجال الذين تزين بهم جبين هذا الوطن ، وشاهدا حيا على أن مصر بخير ، ومصر ولادة ، ومصر فيها رجال لا يركعون إلا لله وحده ، ورغم أن تصريحاته وحواراته قبل أن يدخل في عزلة مرضه الأخير كانت محبطة من تعثر مشروع الاستقلال وانهيار مؤسسة العدالة في مصر وضعف همم الرجال ، إلا أنه كان واثقا من أن البلد قادرة على التصحيح ، وأن "أولاده" في نادي القضاة وبقية نبلاء الوطن قادرون على انتزاع الحرية وإعادة الهيبة والشفافية والاستقلال لمؤسسة العدالة ، مفتاح أي تحرر أو نهضة للوطن ، يحيى الرفاعي من طينة الزعماء التاريخيين الكبار الذين عرفوا بالصلابة والنبل ، أمثال نيلسون مانديلا ، غير أن اللحظة التاريخية التي قام بدوره فيها كان المجتمع كله إلى تراجع وضعف ، فلم يحمله تيار كاف ، ولكن حسبه أن يكون قد أعاق كثيرا مسلسل الانهيار في مؤسسة العدالة وأسس مدرسة جديدة في الوطنية ، وترك لنا مثلا في النبل والصلابة والتضحية ، والعشق الحقيقي للوطن ، بعيدا عن الصخب الإعلامي والسياسي المجاني ، رحمه الله. [email protected]