روى الإمام البيهقي في «شعب الإيمان» (9062) بإسناده عن أبي علي الروذباري، قال: «أضيق السجون: معاشرة الأضداد». وهي كلمة بليغة، وقاعدة أصيلة في النظر لكل المتشاكسين المختلفين، وما يخلفه التنافر والتضاد في النفوس من ضيق ومشقة، تتغير معها الدنيا، وتضيق الأرض بما رحبت، فلا مال ينفع ولا زوجة ولا ولد، ولنا عبرة في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه، فقد كان موسرا، غير معسر، حين تخلف عن غزوة تبوك، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين باعتزال كعب وأصحابه، فلما اعتزله الناس؛ صارت الدنيا كلها سجنهم الكبير، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، كما قال سبحانه وتعالى في حقهم: «وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ» [التوبة:118]، وقد روى قصتهم البخاري (4418) ومسلم (2769). وضرب الله لنا مثلاً آخر بالمسلمين حين أُعجبوا بكثرتهم؛ فلم تغن عنهم من الله شيئًا، وقال سبحانه: «لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ» [التوبة:25]. نعم تضيق الأرض وتضيق النفوس رغم وجود المال والأهل والولد؛ فكل هذه الأشياء من الزينة الظاهرة، فأما رحابة الصدر واطمئنان النفس وهدوء البال والسكينة فباطنٌ لا يتوقف على الزينة الظاهرة؛ إنما يرويه الإيمان والثقة بالله عز وجل، والركون إليه سبحانه. والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تنافر منها اختلف، ولا يضيرها الاختلاف ما لم يفرض عليها معاشرة المخالف المنافر لها، فيا ويلها حين تصحو وتنام على «الشريك المخالف»، فلا هو يستقيم لها، ولا هي تستريح منه، فهي في سجن دائم معه. وقد قيل في تفسير قوله تعالى عن سيدنا سليمان عليه السلام: «وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الغَائِبِينَ* لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ» [النمل:20-21] قيل: إن المقصود بهذا العذاب الشديد: إلزام الهدهد صحبة الأضداد [تفسير الرازي24/550]. لما في صحبة الأضداد من الألم والعذاب للنفس. وقد ضرب الله لنا مثلاً، قال فيه: «ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الحَمْدُ للهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» [الزُّمر:29]. والأمة المتنافرة لا تأخذ زمام المبادرة، ولا تعرف إلى الرفعة سبيلاً، إذ التشاكس والتنافر أساس الهزيمة وذهاب الأمم، وقد قال سبحانه وتعالى: «وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» [الأنفال:46]. وفي الحديث الشريف أنّ النبي صلى الله عليه وسلم، بعث معاذًا وأبا موسى إلى اليمن فقال: «يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا» [رواه البخاري3038، ومسلم1733]. والنصوص كثيرة في هذا الباب، وجميعها يحذر من عاقبة التشرذم والتنافر والاختلاف على الأمة وعلى الأفراد، وقد كان كثير من السلف يترك رأيه وما يؤمن به وينزل على رأي أغلبية المسلمين، جمعًا للكلمة، وتوحيدًا للصف، ما دامت المسألة في إطار المشروع أو المباح. وثمة فرق كبير بين التضاد والتنافر المؤدي للتنازع وذهاب القوة وضياع الأمم، وبين الاختلاف المجرد المبني على الاجتهاد وإخلاص القصد للوصول للحق دون منازعة أو احتراب مع المخالف في الرأي. فمجرد الاختلاف فيما يحتمله الاجتهاد لا عيب فيه، وإنما العيب في التحزب والتفرق والتحارب بناء على هذا الاختلاف. فليختلف رأيكم مع اتفاق قلوبكم عباد الله. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.