في غياب تخطيط استراتيجي يقوم على رؤية واضحة تكثر الأزمات، وهذا ما تؤكده أدبيات العلوم الإدارية والممارسات العملية، وواقعنا المصري على كل الأصعدة يثبت هذه الفرضية العلمية، وبالتالي تسير مصر بمنهج الإدارة بردات الفعل التي تعالج أزمات وتطفئ حرائق وتفض احتجاجات وقطع طرق وتتعامل مع نقص السولار وانقطاع الكهرباء والمياه، ويؤسفني القول بأن الواقع المصري اليوم هو نموذج كلاسيكي للإدارة العشوائية التي تحركها الأحداث وسط ضباب كثيف من ضغوط المشاكل والأزمات الراهنة التي تستهلك كل الجهود والموارد في غياب إرادة سياسية لاستشراف المستقبل طبقا لخطط وبرامج تعكس توجهات استراتيجية للدولة ومؤسساتها. وأقدم في هذا المقال تحليلاً لأزمة سد النهضة من وجهة نظر أستاذ إدارة أعمال مستمدة من العلوم الإدارية، وتحديدا الإدارة الاستراتيجية، والبداية الصحيحة أن يتم دراسة الموقف الحالي وتحديد المشكلة بحجمها وأبعادها وتبعاتها، ثم نقوم بتحليل استراتيجي لوضع مصر، ثم كيف يمكن تحويل تهديدات سد النهضة إلى فرص حقيقية تدرأ السلبيات المتوقعة وتقي من أزمات أخرى محتملة في السنوات القادمة. ومن الدراسات والبيانات المتاحة يمكننا تقدير الموقف الذي يعبر عن حجم المشكلة وأبعادها في الحقائق التالية: يتم بناء السد على هضبة بن شنقول على نحو بعد 26 كيلو من الحدود السودانية، بطاقة تخزينية لبحيرته تبلغ حوالي 73 مليارًا من المياه، ويمكن لهذا السد أن يولد كهرباء قد تكفي إثيوبيا والسودان ومصر، والسد يشيد في منطقة ذات صعوبات جيولوجية ويقدر معامل الأمان للسد ب81، وهناك إجماع من الخبراء المصريين والدوليين بأن السد له آثار سلبية مؤكدة، وطبقا لتقدير د.أوفه تروجر رئيس جامعة برلين فإن مصر ستفقد 25% من المياه كنتيجة مباشرة لبناء سد النهضة، كما يقرر خبراء القانون أنه طبقا لاتفاقيات الأممالمتحدة، فإنه محظور على أي دولة أن تحدث أي ضرر يلحق بالدول الأخرى، وخاصة تلوث المياه، وإقامة السدود، وتحويل النهر أو أحد روافده بدون ترتيب مسبق مع دول المصب، وهنا نحن أمام مخالفتين صريحتين من جانب إثيوبيا وهما تحويل النهر وبناء السد. وطبقا للتحليل الاستراتيجي، فإن مصر لديها جوانب قوة تتمثل في الخبرات الفنية والقانونية وقدرة الدبلوماسية المصرية، ووعي الشعب المصري بأبعاد القضية وإعلام قوي - شريطة أن يعمل بحرفية وتناغم مع مؤسسات الدولة الأخرى - مع إرادة سياسية لا تفرط في حقوق مصر التاريخية مقترنة بدعم استخباراتي ولوجيستي وعسكري. وبمنطق التحليل الاستراتيجي، فإن مصر مطالبة بتوظيف عناصر القوة هذه في تعظيم العوائد من الفرص المتاحة وتدنية الأثار السلبية المصاحبة للتهديدات التي يمكن تحويلها إلى فرص حقيقية لصالح الموقف المصري، ومن أهم الفرص: علاقة مصر والسودان التاريخية، والاتفاقيات الدولية في إطار القوانين الدولية، والبعد الإسلامي لمصر في إفريقيا، والتواجد الاقتصادي لمصر في إفريقيا من خلال شركة المقاولون العرب والنصر للاستيراد والتصدير، وعلاقات الأزهر والكنيسة المصرية بالرموز الدينية الإفريقية ودور مصر في الاتحاد الإفريقي، وتاريخ مصر غير العدواني بل الداعم لاستقلال ووحدة دول القارة الإفريقية، وهناك تهديدات ومخاطر ماثلة من أهمها: الصراع الدولي على إفريقيا والتواجد الأمريكي الذي يزاحم دور أوروبا، والتغلغل السري لإسرائيل في القارة، وتطلعات الدول الإفريقية ذات النعرات العرقية والحكومات الراديكالية، والتجاهل المصري لإفريقيا منذ 1995، بالإضافة إلى الضعف العربي العام وانشغال الدول العربية بمصالحها في ظل غياب استراتيجية عربية موحدة. وختاماً.. أقترح إجراء هذا التحليل الاستراتيجي باستفاضة ومن قبل خبراء متخصصين في عدة مجالات هندسية وقانونية وسياسية واقتصادية وإدارية ودبلوماسية، ثم وضع استراتيجية على المدى القصير تدرأ السلبيات المحتملة للسد، وعلى المدى الطويل (لعام 2030) مثلاً تقوم على التواجد المصري الإيجابي بالقارة وبناء الثقة وإقامة شراكة حقيقية تعتمد على مصالح مشتركة للدول في الأجل الطويل من خلال استثمار الخبرات المصرية لمساعدة دول القارة في التنمية وإقامة مشروعات مشتركة، وعلى سلم أولويات هذه المشروعات إقامة السدود وإدارتها والربط الكهربائي ومضاعفة التجارة البينية وتفعيل دور الصندوق الإفريقي بوزارة الخارجية ودعمه لتقديم بعثات وخبرات للدول الإفريقية، وليكن الإطار الحاكم لهذه الاستراتيجية هو قاعدة "أنا أربح وأنت تربح أيضًا Win – Win Approach". عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.