يروج البعض لأفكار تحتاج منا إلى إعادة النظر فيها، لأنها تحمل في طياتها إساءة بالغة إلى مصر وشعبها، فكثيرون يزعمون أن المصريين القدماء أو الفراعنة كانوا أهل كفر وضلال، وآذوا أنبياء الله ورسله، ويعتقد هؤلاء أيضًا أن الله تعالى ذم مصر ولعن شعبها في القرآن الكريم، فأهل مصر هم آل فرعون، وهم قوم سوء استخف فرعون بعقولهم، وأطاعوه على كفره وصلفه، وقال تعالى فيهم: "فاستخف قومه فأطاعوه"، وقال: "وحاق بآل فرعون سوء العذاب"، "ادخلوا آل فرعون أشد العذاب"، وغير ذلك من الآيات التي تقدح- حسبما يزعمون- في المصريين وتذمهم. لكن الحقيقة التي نؤكدها جلية أن هذه الآيات الشريفات لا تعني أهل مصر، بل قصد بها قوم فرعون فحسب، وهم حاشيته ورجال بلاطه والمقربون منه ممن آمنوا بألوهيته المزعومة، ولم يشر اللفظ القرآني قط إلى عموم المصريين، ويؤكد ذلك، قوله تعالى: "وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين"، وهي آية فاصلة في دلالتها تؤكد أن فرعون لما غرق في اليم، غرق معه قومه وحاشيته من أهل السوء، ولقوا مصيره، ولو كان لفظ آل فرعون يعني شعب مصر، لكان المصريون جميعًا قد غرقوا مع فرعون، وهو ما لم يحدث قط، ولعل تلك الآية الآنفة تميط اللثام عن هوية آل فرعون تحديدًا حتى لا يخلط البعض بينهم وبين أهل مصر، إلى حد جعل البعض يمقت لفظ الفراعنة ولا يحب الانتساب إليهم، لأنهم ملعونون في القرآن حسب هذا التأويل الفاسد، واللافت أن القرآن ذاته يتحدث عن كثيرين من أهل مصر ممن ينتسبون لفرعون بثناء كبير، مثل امرأة فرعون- واسمها آسية- التي ضرب بها المثل في الإيمان بين كل نساء العالمين، وهي من صالحات المصريين، وأثنى الله عليها ثناءً عظيمًا: "وضرب الله مثلًا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لى عندك بيتا فى الجنة"، وقال(ص): "حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران وآسية امرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد"، أما مؤمن آل فرعون، فهو رجل مصري صالح- قيل: اسمه حزقيل- كان من أتباع النبي موسى، وهو ابن عم فرعون، ومن أمراء البيت المالك، قال تعالى: "وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلًا أن يقول ربي الله"، "وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد"، وفي الحديث: أن النبي (ص) شم رائحة طيبة في الجنة وهو في رحلة المعراج، فسأل جبريل: لمن هذه الرائحة؟ قال: ماشطة بنت فرعون. وكانت الماشطة امرأة مصرية مؤمنة، عذبها فرعون حتى تترك دين الله، فأبت، فقتلها وأبناءها في زيت مغلي، فجعل الله رائحة الزيت الذى قتلت فيه عطرًا يفوح في الجنة، ويوصي النبي بمصر وأهلها دون غيرهم، وقال: "إنكم ستفتحون مصر، فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا"، وهو حديث يؤكد فضائل مصر وشعبها، ويدحض فرية القائلين بأن القرآن ذم مصر وأهلها، فكيف يذم الله قومًا في القرآن، ثم يوصي بهم نبيه ويدعو لهم؟! وقد دعا النبي يوسف لمصر بالأمان وقال: "ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين"، كما يؤكد أكثر المفسرين أن ملك مصر أيام يوسف كان موحدًا، وقد أهدى ملك مصر النبي إبراهيم هاجر المصرية، فتزوجها، وهي أم إسماعيل أبي العرب، وقال تعالى عن سحرة فرعون، وهم يعلنون إيمانهم بالله: "فألقى السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون"، وهم مصريون عملوا بالسحر، ولما تبين لهم الحق آمنوا بالله رغم وعيد فرعون لهم، وتحدث القرآن أيضًا عن امرأة العزيز– وقيل: اسمها زليخة- وهي تعلن إيمانها بالله، وبأن يوسف كان على الحق ولم يراودها: "الآن حصص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين. ذلك ليعلم أنى لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدى كيد الخائنين. وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربى إن ربى غفور رحيم"، والشطر الأخير من الآية يؤكد أن هذه المرأة آمنت بدين الله، وقال بعض المفسرين إن يوسف تزوجها، تلك نماذج طيبة من الموحدين من أهل مصر الذين آمنوا بالأنبياء وبدعوتهم إلى دين الله أيام الفراعنة، وهو ما يؤكد أن كثيرين من المصريين فى تلك الأيام كانوا على التوحيد، كما كان منهم أيضًا عباد الأوثان، غير أنهم لم يكونوا جميعًا أهل كفر، ويكفي أهل مصر فخرًا أن الله تعالى ذكرهم في كتابه، وأثنى عليهم وعلى بلدهم، كما تحدث النبي (ص) عن أهل مصر، وأوصى بهم خيرًا، بل وتزوج منهم مارية القبطية، أم ولده إبراهيم، ولو تحدثنا عن مناقب مصر في القرآن والسنة لطال بنا المقال، وإن شاء الله يكون لذلك حديث آخر...