بينما كانت الطائرات تستعد للتحليق في الأجواء العراقية عام 1991، كانت الدبلوماسية العسكرية الأمريكية تحلق في أجواء العواصم العربية لنيل دعمها أو استحسانها أو صمتها إزاء عاصفة الصحراء الوشيكة. وكان ريتشارد بروس تشيني المعروف عربيًا بديك تشيني يتنقل بين عواصمنا العربية بسرعة ذبابة خيل مستنفرة. لكن زيارته إلى المغرب كانت زيارة استثنائية بكل المقاييس، هكذا يقول الرجل في مذكراته. أيامها كان الحسن الثاني ملكًا للمغرب وكان تشيني مجرد وزير دفاع وكان اللقاء في قصر الضيافة دافئًا للغاية. وقبل أن يبدأ الاجتماع، اقترب ملك المغرب من أحد حراسه وأعطاه صندوقًا فضيًا، وهمس في أذنه قليلًا قبل أن يتمتم الحارس ببعض العبارات خافض الرأس حاسر البصر. وحاول سفير الحرب الأمريكية أن يسترق السمع، لكنه لم يفهم من تمتمات الرجل شيئًا لأنها كانت باللغة العربية التي لا يجيدها. بيد أن الرجل لم يستطع أن يكبح جماح فضوله، فسأل الملك فور جلوسه عن تلكم الطقوس المريبة، فأخبره الحسن أن بالصندوق آيات من القرآن، وأن حارسه كان يقسم عليها أن لا يفشي سر لقائهما لأحد. راقت يومها تلك الفكرة كثيرًا لتشيني، وتمنى لو أن لديه صندوقًا كصندوق الملك، ورجالًا كرجاله. فقد كان تشيني يحفظ أسراره في خزائن كبيرة بالبنتاجون ولا يأتمن عليها صدر أحد من حراسه أبدًا. ورغم التقدم الأمريكي المذهل في المجالات كافة، إلا أنهم لم يفطنوا إلا ما تتفتق عنه الذهنية العربية العبقرية أحيانًا من أعاجيب. ولأنه لم يقرأ السندباد ولم يعرف سجادنا الطائر ومصابيحنا السحرية وطواقي الإخفاء السياسية، فقد وقف الرجل تشيني أمام صندوق العجب الفضي في قصر الملك. لكن الملك المغربي يومها نسي أن يعد صندوقًا للضيف يحتوي على أي مقدس لديه ليكتم سره. وفات ملكنا المغربي أن الأمريكان لا يحفظون أسرار الحلفاء إلا ريثما تنتهي الحرب وتوزع الغنائم. صحيح أن الملك الراحل استطاع بكبسة زر وبعض التمتمات أن يحيل قلب حارسه إلى خزانة عميقة تليق بلقاء له ما بعده، إلا أنه لم يعرف لقلب تشيني أو لعقله مدخلًا، ولم يسعفه التاريخ العربي ببعض التعاويذ التي تجعل من تشيني حليفًا إلى الأبد. هكذا يعمد حكامنا إلى إخفاء كل الحقائق عنا، ويستخدمون تعاويذهم المقدسة لحفظ أسرارهم في أقفاص صدور حراسهم، ويستخدمون المقدس في حفظ غير المقدس ليضمنوا ولاء حاملي صناديقهم الفضية، لكنهم لا يعرفون أن التاريخ لا يحفظ سرًا وإن كان بلكنة عربية أصيلة، لا سيما حين يكون شريك المائدة رجلًا يرصع صدره بنياشين قهرنا كتشيني. وهنا يبرز سؤال بحجم المحيط: هل نجمت إذاعة لقاء المحتشدين للدفاع عن أمننا الوطني من قوى سياسية وحزبية ودينية عن نقص حادٍ في احتياطي صناديقنا الفضية المقدسة؟ أم أنها كانت رمية من دون رام أراد الله بها أن يكشف عورات المتاجرين بأحلام البسطاء الذين لا يملكون مشروعًا وطنيًا ولا حنكة دبلوماسية ولا بصيرة سياسية تمكنهم من التفريق بين ما يُذاع وما لا يُذاع؟ أم تراها كانت حلقة مفصلية من مسلسل حرب النجوم الذي تشهد أروقته كل ساحاتنا السياسية البلهاء؟ لا أحد يعرف تمامًا كواليس ما حدث وما يحدث، لأن الحراس الذين يمسكون بصناديقهم المقدسة حول المشهد صائمون عن الكلام حتى الموت. ولأن المتمتمين حول مشاهدنا الهزلية في هذه الأيام العجاف كثر، فإننا لا نملك إلا أن ننتظر رجلًا غير متهم في انتمائه كتشيني ليفضح ولائمنا السياسية الغامضة التي يصر أصحابها على إخفاء رائحة شوائها عنّا. نعرف أننا مستبعدون عن دائرة الفهم لأن أصحاب القصور الملكية في بلادنا يحسبون أنهم يعرفون جيدًا ما يصلح وما لا يصلح لأمعائنا السياسية الدقيقة، لكننا على يقين أن أسرار الملك ستنكشف قريبًا لتفضح زيف المتآمرين على مصرنا وإن أسرفوا في توزيع صناديقهم المقدسة على الحاضرين كافة في مشاهد الخيانة. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصرى مقيم بالإمارات عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.